لقي الإمام الشافعي ربه عز وجل بعد أن عمر حياته بجلائل الأعمال, وبأطيب الأقوال, وبأنفع وأجل ألوان العلم, وكان يعتقد أن القرآن الكريم, وأن السنة النبوية المطهرة, هما أساس شريعة الإسلام, وأن كل علم ليس منهما بركته قليلة, ونفعه ضئيل. ولقد منحه الله تعالي بسطة في العلم والجسم, فكان طويل القامة, موفور الهيبة, ذا معرفة بالطب ومهارة في الرمي, مع حضور بديهة, وقوة إدراك, وعمق الفكر, وسعة العقل, وسخاء اليد, وميل الي البحث في الأمور الكلية, أكثر من الأمور الجزئية. وكان رحمه الله فصيح اللسان موفور البيان بارعا في الخطابة, لقبه أهل الاختصاص بخطيب العلماء. وكان نافذ البصيرة, صادق الفراسة, عالي المروءة, كريم الاخلاق, قال فيه العقلاء: لو كان الكذب مباحا لكانت مروءة الشافعي تمنعه من ان يكذب. وقال هو عن نفسه: لو علمت ان شرب الماء البارد ينقص من كرامتي ما شربته. وكان مخلصا في تحصيله للعلم, وفي تعليمه لغيره, وفي نشره للناس دون أن يريد من أحد جزاء ولا شكورا. وكثيرا ماكان يردد: وددت لو انتفع الناس بهذا العلم ولم ينسب إلي منه شيء. وكان رحمه الله عزيز النفس, عفيف اليد, صادعا بكلمة الحق, لا يخشي أحدا سوي خالقه ويتغني بقوله: وكان رحمه الله يعشق الأسفار, لا من أجل متعة من متع الدنيا, وإنما من أجل طلب العلم, ومن أجل سماعه من أهله, ومن أجل عرض ما عنده من علم عليهم, ومراجعتهم ومدارستهم ومحاورتهم فيما قالوه, وفيما أفتوا به, ومن أشعاره الحكيمة في محبة الأسفار للقاء الأخيار قوله: سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب ان لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الغاب ما أفترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب والتبر كالترب ملقي في أماكنه والعود في أرضه نوع من الحطب ومما ينسب إليه أيضا قوله: سأضرب في طول البلاد وعرضها أنال مرادي أو أموت غريبا فإن تلفت نفسي فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا وكان رحمه الله ينفر من البلاد التي رؤساؤها, يفضلون العناصر الأعجمية علي العناصر العربية ويقربون من مجالسهم أهل الكلام الفلسفي والجدلي, علي من ينطقون بالعلم الشرعي, ولعل هذا من الأسباب التي جعلته يرحل الي مصر ويترك بغداد في عهد الخليفة المأمون الذي قرب رؤساء فرقة المعتزلة, واستعان في تدعيم سلطانه بالعناصر الفارسية. ولقد كان سفره الي مصر بدعوة من واليها في ذلك الوقت, العباس بن عبدالله القرشي الهاشمي. ومن أشعاره عندما قصد السفر الي مصر قوله: لقد أصبحت نفسي تتوق إلي مصر ومن دونها قطع المهامة والقفر فو الله ما أدري الي الفوز والغني أساق إليها أم أساق الي القبر وكان رحمه الله محل الاحترام والتقدير, والمحبة من شيوخه ومن تلاميذه, ومن كل ذي عقل سليم ومنبت كريم. فإمام دار الهجرة مالك بن أنس بمجرد أن رآه واستمع إليه أحبه وأكرمه وقربه من مجلسه وقال فيه مارأيت قرشيا أفهم من هذا الفتي وكان عمر الشافعي في ذلك الوقت في حدود عشرين سنة. وعندما بلغ خبر موته للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال: كان الشافعي كالشمس للدنيا, وكان كالعافية للبدن, ما من أحد مس محبرة إلا وللشافعي عليه منة. وقد تعرض الإمام الشافعي في أواخر حياته لكثير من أذي السفهاء, ومن تطاول الجهلاء, ومن حسد الحاسدين, فصبر علي الأذي صبر العظماء. دخل عليه أحد تلاميذه وقال له: كيف أصبحت ياشيخي؟ فقال له: أصبحت من الدنيا راحلا, وللإخوان مفارقا, ولكأس المنية شاربا, ثم دمعت عيناه وناجي خالقه عز وجل بقوله: فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما فمازلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما وصعدت روح الإمام الشافعي الي بارئها, في آخر ليلة من شهر رجب سنة204 ه, وقد بلغ من العمر أربعة وخمسين عاما. رحم الله تعالي الإمام الشافعي وألحقنا به في زمرة الصالحين.. المزيد من مقالات د. محمد سيد طنطاوي