هذا المقال ليس تعليقا أو تعقيبا علي مسلسل الجماعة الذي تذيعه محطات تليفزيونية عدة هذه الأيام; فقد غابت عني الحلقات الأولي نظرا لوجودي خارج البلاد, كما أنني لست من الحريصين علي مشاهدة المسلسلات التليفزيونية وزاد من صعوبة المسألة أن أحدا ممن سألتهم عن موعد إذاعة المسلسل لم يسعفني بموعده, وإنما اكتفي بالقول إنه يوجد في كل الشبكات التليفزيونية في كل الأوقات, وهو ما يعني أن مهمتي هي الجلوس أمام التليفزيون ثم اقتناص المسلسل وقت إذاعته. علي أي الأحوال فقد أقنعني كثرة من الأصدقاء الموثوق بهم بضرورة المشاهدة إن لم يكن من أجل الجانب السياسي للموضوع, وهو اهتمام رئيسي من جانبي, فسوف يكون للتمتع بالحرفية العالية التي تناول بها الأستاذ وحيد حامد الموضوع. وعندما يقول الأستاذ صلاح منتصر إن المسلسل, اختلفت أو اتفقت معه, هو أفضل ما يقدم هذا العام, فإن المشاهدة لا تكون واجبا بل فريضة!. وحتي يكتب لي مشاهدة المسلسل وتتبع حلقاته فإن التسجيل واجب لحقيقة أن ذلك يحدث في مصر وحدها بين الدول العربية حيث تجري عملية المراجعة التاريخية بشجاعة ومن خلال أساليب شتي في الكتب والسينما والمسرح. وعاد عبد الناصر والسادات وأم كلثوم وقاسم أمين وطه حسين وغيرهم كثر إلي الناس مرة أخري, وجري الاختلاف حول الوقائع, وتفسيرها, ولكن هكذا الحال في الدول التي لديها من الثقة في نفسها ما يجعلها تقلب وتراجع وتفحص ما جري من تاريخها وتعرضه علي أجيالها الجديدة بحلوه ومره. وفي كل مرة فإن الموضوع من كثرة النظر إليه يضحي جزءا من الواقع الذي نعيش فيه. وما يجري حاليا مع الجماعة تليفزيونيا ليس استثناء من القاعدة; فهو يعني من ناحية اعترافا بأن الإخوان المسلمين جزء من التاريخ المصري المعاصر, و أنهم يمثلون من ناحية أخري تيارا وحركة وتنظيما كانت له عثراته وسوءاته كما كان له نصيبه في الحركة السياسية والوطنية المصرية, ولكنهم من ناحية ثالثة جزء من الحاضر, وواحد من الاختيارات السياسية المطروحة التي تحاول لا أن تؤثر في الحياة السياسية المصرية فقط, بل في الحياة السياسية في المنطقة بأسرها. وهي كتيار يحمل الدين سيفا بتارا للخلاص من التخلف والتراجع يوجد في جميع البلدان الإسلامية تقريبا, شيعية كانت أو سنية; وكحركة فإنه يتراوح مثل الحركات السياسية ما بين اليمين واليسار حينما يكون الأمر متعلقا بالنظام الاقتصادي والاجتماعي, والمثالية والواقعية عندما يكون الموضوع متعلقا بالنظام السياسي; أما كتنظيم فإنه يخضع لطموحات كامنة في الوصول إلي السلطة سلاما أو عنفا, ولضغوط قائمة يفرضها واقع الدول والعالم. وأيا كان المسار الذي سوف يأخذه المسلسل عن حياة حسن البنا وما فعله وقام به تلاميذه ومريدوه, فإن التجربة صارت الآن غنية بتطبيقات متعددة أخذت أشكالا شتي حينما تحالف التيار أو التنظيم مع العلمانية الصريحة في ماليزيا وتركيا, وحينما اتجهت يمينا مولدة معها جماعات أكثر راديكالية انطلقت من الفكر القطبي نسبة إلي سيد قطب داخل الجماعة ووجدت مجالا لها في باكستان وأفغانستان واليمن, وحينما تحالفت مع العسكريين كما حدث في باكستان في الماضي وفي السودان في الحاضر, وحينما حاولت استغلال المناخ السياسي وايجاد وخلق المجال كما هي الحال في الأردن والمغرب والجزائر ومصر. وكتجربة فإن نتائج التيار والحركة والتنظيم كانت في أغلبها مؤسفة, ولم يكتب لها النجاح النسبي إلا عندما صارت جزءا أصيلا من دولة مدنية وعلمانية مثل ماليزيا وتركيا تعتمد علي المواطنة والمساواة التامة بين المواطنين بلا تحفظات ولا وصاية ولا ملابسات. وما عدا ذلك فإن التيار في صورته الشيعية للدولة الدينية عمق التخلف والفقر الإيراني حتي لو كانت إيران تملأ الدنيا صراخا وتسعي إلي امتلاك قنبلة نووية; وفي لبنان كان حزب الله هو من فرض بقوة السلاح الفيتو علي النظام الديمقراطي اللبناني. ويكفي النظر إلي الحالات الباكستانية والأفغانية لكي يتضح ليس فقط عملية التدمير القائمة للدولة, ولكن أيضا الجنوح المستمر لقوي وتنظيمات دينية للغلو والتطرف والقضاء علي هيبة الدولة وضياع وجودها تحت أقدام التدخل والاحتلال الأجنبي. والأمر ببساطة, هو أنه داخل التيار والحركة والتنظيم, توجد كما هي الحال دائما في التوجهات الأيديولوجية نزعة أصولية تميل تدريجيا إلي الحرفية والتطرف والحدة حتي تنتهي الحال دائما بالقضاء علي الاعتدال أو إقصائه أو حتي تصفية من يميلون إليه. وتكون النتيجة هي ما نشاهده الآن في السودان من الوصول إلي نقطة التقسيم, وفي اليمن حيث تجري عملية تفكيك الدولة, وفي فلسطين حيث ضاعت القضية بعد الانقلاب العسكري الذي جري في غزة علي السلطة الوطنية الفلسطينية الشرعية التي يعترف بها العالم والجامعة العربية, ومن ثم لم يعد أحد في الدنيا يعرف عما إذا كان الفلسطينيون يريدون دولة مستقلة أم دولتين. سجل الفشل وتدمير الدولة والمجتمع كبير, وفي الحالة المصرية فإن جماعة الإخوان المسلمين بدت أحيانا متأثرة بالحالة الوطنية فكانت جزءا من حركة الاستقلال والنهضة; ولكنها في أغلب الأحيان جرت فيها حالة من الفرز الداخلي الذي أطاح بالعناصر المعتدلة لكي يحل محلها عناصر وجماعات متطرفة. وليس صدفة أن يكون مرشد الإخوان المسلمين السابق هو الذي قال طز للدولة المصرية, ولم يجد معضلة في أن يحكمها رجل صالح من ماليزيا, كما أنها ليست صدفة أيضا أن يرفض المرشد الحالي حق المرأة أو المسيحيين في تولي منصب رئيس الجمهورية لأنه يعتقد أن منصب الرئيس ليس وظيفة يحددها الدستور في دولة مدنية, ولكنه خليفة له وظائف شرعية في دولة دينية. وعندما سألت واحدا من أقطاب الإخوان ذات مرة في برنامج تليفزيوني مسجل عن اليوم الذي يحتفلون فيه باستقلال مصر, فجاءت الإجابة أن مصر ليست دولة مستقلة بعد!. وبمزيد من الأسئلة فإن الصورة التي تتكون هي أن الإخواني الأصيل لا يؤمن أصلا بالدولة الوطنية, ومن ثم فإن قيام دولة مصر بعد ثورة1919 لا يعنيه في شيء, بل إن شعارها عن الدين لله والوطن للجميع كثيرا ما يقلقه; وكذلك فإن استقلال الدولة بعد ثورة23 يوليو1952 لا يمثل له شيئا إلا ما لاقاه الإخوان منها من عنت. وهكذا فإن الاستقلال لا يكون للدولة وإنما للأمة, وعندما يأتي عصر التمكين للجماعة. وفي الواقع المصري الراهن فإن الجماعة التي تتجه يمينا تستخدم أنواعا مختلفة من الأسلحة: أولها معروف وهو الدين الذي له مكانة تمس شغاف القلوب وهوي العقول بعد تفسيره وتجهيزه بحيث يكون تثبيتا لعناصر التخلف والتراجع في المجتمع, وهذه قضايا كبري تحتاج معالجة خاصة. وثانيها تصفية المعتدلين داخلها من خلال تجريدهم من استنارتهم ورؤيتهم لما يجري في العالم وتأثرهم بالتجارب التركية والماليزية. ولعل تجربة البرنامج كانت شاهدة علي هذه العملية عندما كان البرنامج فكرة المعتدلين بحيث يكون مقدمة لحزب سياسي مدني واضح يمارس السياسة دون وصاية أو هيمنة. وكانت النتيجة أن العناصر اليمينية المتطرفة أفرغت البرنامج من مضمونه, بل جري تحويله إلي وثيقة نقية عن الدولة الدينية, وفوق ذلك جري انتخاب مرشد عام قوله يشهد علي موقعه بين الاعتدال والتطرف. وثالثها الاعتماد علي الساخطين من تيارات سياسية مختلفة عاجزة عن التعبئة الجماهيرية, وليس لديها من الموارد المالية والبشرية ما يكفي للتأثير في الواقع السياسي, فينتهي بها الأمر إلي الارتماء في أحضان الإخوان المسلمين وكأنهم لم يسمعوا تصريحا واحدا لها, ولا قرأوا ورقة واحدة من أوراقها. وكم كان مدهشا حالة الصمت المدوي من قبل أحزاب وجماعات وقوي ليبرالية وعلمانية تناضل من أجل الديمقراطية إزاء التصريحات الأخيرة لمرشد الإخوان. وكم كان مدهشا أكثر أن نجد حملة التوقيعات للدكتور محمد البرادعي بعد أن فشلت في الحصول علي التوقيعات التي طلبها, ترمي نفسها في أحضان الإخوان لكي يحصلوا لهم من التوقيعات ما يكفي للحفاظ علي ماء الوجه. ولكن ما نسوه وهم داخل أحضان الإخوان ليس فقط المبادئ التي طالما دافعوا عنها, وإنما أن السؤال الملح دوما سوف يكون عما إذا كان التوقيع في النهاية سوف يكون للدكتور البرادعي أم للإخوان؟!. وببساطة فإن الدكتور البرادعي والجماعات التي التفت من حوله يسارا ويمينا اندفعت كما فعلت جماعات مماثلة لها ذات يوم للتحالف مع الخميني وكانت النتيجة واقعة بين المقصلة والسجن والمنفي. ورابعها تأخر النظام السياسي في اتخاذ إجراءات الإصلاح السياسي المطلوبة حتي تلك التي أقرها الحزب الوطني الديمقراطي في مؤتمراته المتعددة; وهذه يستغلها الإخوان لإيجاد حالة من عدم الثقة مع النظام القائم, بل يجد من بين القوي السياسية من هو علي استعداد للتحالف مع الشيطان حتي لو كانوا يعلمون أنه يجهز لدولة مثالها قائم ورموزها واضحة تميز بين مواطني الأمة, وتضطهد من يخالفها في الدين, وتعادي الدنيا كلها, وتصنع الحروب والأزمات, وتنتهي فيها الحريات العامة, وتقضي علي السياحة, وتعود بالبلاد إلي العصور الوسطي, وتجد في العلوم والتكنولوجيا جنا وعفاريت. المسلسل التليفزيوني سوف يسير في طريقه, ويجري عليه من التقييمات ما جري لغيره; ولكن المعضلة الأصعب هي المسلسل السياسي الذي يجري علي أرض الواقع حيث يحاول الإخوان جذب الوسط السياسي إلي ناحيتهم في لحظة تحول وانتقال وحاجة ماسة إلي الحكمة والبصيرة!. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد