ولد' عبد الله بن المبارك' في مدينة' مرو' عام118 ه من أب تركي وأم خوارزمية, ونشأ بين العلماء نشأة صالحة, فحفظ القرآن الكريم, وتعلم اللغة العربية, وحفظ أحاديث كثيرة من أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم, ودرس الفقه, وأنعم الله عليه بذاكرة قوية منذ صغره, فقد كان سريع الحفظ, لا ينسي ما يحفظه أبدا, وفي الثالثة والعشرين من عمره رحل إلي بلاد الإسلام الواسعة طلبا للعلم. وكان عبد الله يكسب من تجارته مالا كثيرا, وحين أتاه أحد أصدقائه واسمه أبو علي, وهو يظن أن الزهد والتجارة لا يجتمعان قائلا لعبد الله: أنت تأمرنا بالزهد, ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلي البلد الحرام كيف ذا ؟! فقال له عبد الله بن المبارك: يا أبا علي, إنما أفعل هذا لأصون وجهي, وأكرم عرضي, وأستعين به علي طاعة ربي, وأنا لا أري لله حقا إلا سارعت إليه حتي أقوم به, فقد كان عبد الله بن المبارك لا يبخل علي أحد بماله, بل كان كريما سخيا, ينفق علي الفقراء والمساكين في كل سنة مائة ألف درهم, وكان ينفق علي طلاب العلم بسخاء وجود, ولقد قدر الناس عبد الله بن المبارك وزادت مهابته لديهم علي مهابة هارون الرشيد نفسه, وروي أن هارون الرشيد قدم ذات يوم إلي( الرقة) فوجد الناس يجرون خلف عبد الله بن المبارك لينظروا إليه, ويسلموا عليه, فنظرت زوجة هارون الرشيد من شباك قصرها, فلما رأت الناس قالت: ما هذا ؟! قالوا: عالم من خراسان قدم( الرقة) يقال له( عبد الله بن المبارك) فقالت: هذا والله الملك, لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بالشرطة والأعوان. كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته, فقيل له: ألا تستوحش ؟ فقال: كيف استوحش و أنا مع النبي صلي الله عليه وسلم و أصحابه ؟ وقال القاسم بن محمد بن عباد: سمعت سويد بن سعيد يقول: رأيت ابن المبارك بمكة أتي زمزم فاستقي شربة, ثم استقبل القبلة, فقال: اللهم إن النبي صلي الله عليه وسلم قال:( ماء زمزم لما شرب له) وهذا أشربه لعطش يوم القيامة, ثم شربه. ويقول نعيم بن حماد: قال رجل لابن المبارك: قرأت البارحة القرآن كله في ركعة, فرد عليه: لكني أعرف رجلا لم يزل البارحة يكرر:( ألهاكم التكاثر) إلي الصبح ما استطاع أن يتجاوزها( يعني نفسه). وهناك قصتان ذات مغزي تستوقفاني في سيرة هذا العالم الزاهد العابد أولاها يحكيها عبد الله بن المبارك نفسه- رحمه الله_ فيقول: خرجت حاجا إلي بيت الله الحرام وزيارة قبر المصطفي_ صلي الله عليه وسلم_ فإذا أنا في بعض الطريق وإذا بسواد علي الطريق, فإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت لها: السلام عليك ورحمة الله وبركاته, فقالت:' سلام قولا من رب رحيم.' فقلت لها: يرحمك الله ما تصنعين في هذا المكان؟ فقالت:' من يضلل الله فلا هادي له.' فعلمت أنها ضالة عن الطريق فقلت لها: أين تريدين؟ فقالت:' سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي.'فعلمت أنها قد قضت حجها وهي تريد بيت المقدس فقلت لها: كم لك في هذا الموضع؟ فقالت:' ثلاث ليال سويا.'فقلت لها: ما أري معك طعاما تأكلين منه؟ فقالت:' هو يطعمني ويسقين.' فقلت: فبأي شيء تتوضئين؟ فقالت': فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا.' فقلت لها: إن معي طعاما فهل لك في الأكل منه فقالت:' ثم أتموا الصيام إلي الليل'. فقلت لها: ليس هذا شهر صيام رمضان, فقالت:' ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم'. فقلت: قد أبيح لنا الإفطار في السفر, فقالت:' وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون'.فقلت: لم لا تكلميني مثلما أكلمك؟ فقالت:' ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.' فقلت: فمن أي الناس أنت؟ فقالت': ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا.' فقلت: لقد أخطأت فاجعليني في حل, فقالت:' لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم.' فقلت: فهل لك أن أحملك علي ناقتي هذه فتدركي القافلة؟ فقالت:' وما تفعلوا من خير يعلمه الله' قال: فأنختها فقالت:' قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم' فغضضت بصري عنها, ولكن لما أرادت أن تركب نفرت الناقة فمزقت ثيابها فقالت:' وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم' فقلت لها اصبري حتي أعقلها, فقالت:' ففهمناها سليمان' فعقلت الناقة وقلت لها: اركبي, فلما ركبت قالت:' سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلي ربنا لمنقلبون.' قال: فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعي وأصيح فقالت: أقصد في مشيك وأغضض من صوتك. فجعلت أمشي رويدا رويدا وأترنم بالشعر فقالت:' فاقرؤوا ما تيسر من القرآن' فقلت لها: لقد أوتيت خيرا, فقالت': وما يذكر إلا أولوا الألباب', فلما مشيت بها قلت لها ألك زوج؟ فقالت:' يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.' فسكتت ولم أكلمها حتي أدركت بها القافلة, فقلت لها: هذه هي القافلة فما لك فيها؟ فقالت': المال والبنون زينة الحياة الدنيا.' فعلمت أن لها أولادا, فقلت: وما شأنهم في الحج؟ فقالت:' وعلامات وبالنجم هم يهتدون.' فعلمت أنهم أدلاء الركاب فقصدت بها الخيام وقلت هذه الخيام فما لك فيها ؟ فقالت:' واتخذ الله إبراهيم خليلا',' وكلم الله موسي تكليما',' يا يحيي خذ الكتاب بقوة.' فناديت يا إبراهيم يا موسي يا يحيي فإذا أنا بشبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر منهم الجلوس قالت': فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلي المدينة فلينظر أيها أزكي طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف', فمضي أحدهم فاشتري طعاما فقدمه بين يدي فقالت:' كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية' قلت: الآن طعامكم علي حرام حتي تخبروني بأمرها, فقالوا: هذه أمنا لها منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن, فقلت:' ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.' أما القصة الثانية فيروي أن عبد الله بن المبارك كان يحج عاما ويغزو عاما, فلما كانت السنة التي يحج فيها خرج بخمسمائة دينار الي موقف الجمال ليشتري جملا فرأي امرأة علي بعض الطريق تنتف ريش بطة ميتة, فتقدم اليها وسألها ماذا تفعلين؟ فقالت: يرحمك الله أنا امرأة علوية ولي أربع بنات مات أبوهن من قريب, وهذا هو اليوم الرابع لهن وما أكلن شيئا, وقد حلت لنا الميتة فأخذت هذه البطة اصلحها واحملها الي بناتي, فقال عبد الله في نفسه: ويحك يا ابن المبارك أين أنت من هذه؟ فأعطاها عبد الله الدنانير التي كانت معه, وعاد إلي بيته ولم يحج هذه السنة, وقعد في بيته حتي لا يضطر لأن يفشي سر عدم ذهابه إلي الحج حتي لا يختلط ما عمل بشئ من الرياء أو التفاخر, حتي انتهي الناس من مناسك الحج وعادوا الي ديارهم, فخرج عبد الله يتلقي جيرانه وأصحابه فصار يقول لكل واحد منهم:( قبل الله حجتك وشكر سعيك) فيردوا عليه:( وانت أيضا قبل الله حجتك وشكر سعيك, إنا قد اجتمعنا معك في مكان كذا وكذا)- أي اثناء تأدية مناسك الحج- وأكثر الناس القول في ذلك, فبات عبد الله مفكرا في ذلك فرأي النبي يقول له:( يا عبد الله لا تتعجب فأنك قد أغثت ملهوفا فسألت الله عز وجل أن يخلق علي صورتك ملكا يحج عنك).وفي يوم من أيام شهر رمضان عام181 ه توفي عبد الله بن المبارك وهو عائد من الغزو, وكان عمره ثلاثة وستين عاما, ويقال: إن الرشيد لما بلغه موت عبدالله, قال: مات اليوم سيد العلماء.