حليوة أسمر عجب في لونه دهب ومرمر أرغوله في إيده يسبح لسيده حياة بلدنا يارب زيده هكذا غني محمد عبدالوهاب, وغنينا معه لنهر النيل. والنجاشي هو إمبراطور الحبشة( إثيوبيا الآن) التي لنا معها تاريخ طويل, وإمبراطورها هو الذي استقبل أصحاب النبي ورحب بهم وأمن حياتهم, وكما أن الأسرة الواحدة تجمعها روابط الدم, فإن مصر وإثيوبيا ودول حوض نهر النيل تجمعها روابط المياه التي لا تقل أهمية عن رابطة الدم, أليس من الماء كل شيء حي. ومازلت أذكر حين بدأ السودان في بناء خزان جبل الأوليا, كنا نغني: عطشان ياصبايا دلوني علي السبيل.. خزان جيل الأوليا اسمعوا يامصريين ما يحوشوا عنا الميه وحنموت عطشانين, وشيد الخزان ولم نمت عطشانين. إن نهر النيل أصبح جزءا من حياتنا, وحتي في أغانينا العاطفية نجد أن له دورا مهما: امتي الزمان يسمح ياجميل.. وأقعد معاك علي شط النيل. وكما يقول المؤرخ الكبير محمد شفيق غربال في سلسلة محاضراته عن تكوين مصر: إن نهر النيل ينساب في مجراه بطريقة عشوائية, ففي بعض البلاد التي تقع في حوضه يترك المنغصات, أما في مصر فقد روض المصريون مياهه واستعملوها في الزراعة وبنوا الخزانات: القناطر الخيرية, وخزان أسوان الذي يمد مصر بالكهرباء وكنا دائما نحتفل بعيد وفاء النيل حين يأتي الفيضان فيركب الأهالي المراكب المزدانة بالزهور ويمخرون بها النهر علي صوت الموسيقي التي تنعكس من القوارب. وقد كان للنيل دور مهم في تكوين الشخصية المصرية, تلك الشخصية التي تتسم بالسلام والاستقرار, فالفلاح يأخذ نصيبه من مياه النيل ثم يتركه لجاره يأخذ من مياهه ما تحتاجه أرضه, وهذا خلق روح التعاون التي تميز الشعب المصري بعكس عرب الصحاري الذين يتنافسون علي البقعة الخضراء وسط الرمال, وكان نهر النيل السبب في ارتباط المصري بأرضه وعزوفه عن الهجرة التي ميزت اللبنانيين والسوريين, لذلك بينما نجد جاليات لبنانية أو سورية في بعض دول أمريكا اللاتينية مثلا لا نجد جالية مصرية. وكما ذكرت كانت هناك رابطة الماء بيننا وبين إثيوبيا ودول حوض النهر, وإذا كانت إثيوبيا قد بدأت في إنشاء خزان في وادي أومو الذي يبعد350 كيلومترا من أديس أبابا, لم تفعل ذلك لتحرم مصر أو دول حوض النيل من المياه, بل لتوفر التيار الكهربائي للشعب, وفي هذا المجال نشرت جريدة الجارديان مقالا بعنوان: إثيوبيا تسعي لأن تكون عملاقا, وفيه يذكر الكاتب كريستوفر شانبلو أن إثيوبيا عندها الأمل في أن يحول الخزان البلاد إلي مركز إنتاج, ويقول الكاتب: إن إثيوبيا تأمل أنه خلال سنوات قليلة تريد أن تحول بلد غير نام به أقل نسبة استعمال الكهرباء للفرد إلي مركز لتوليد الكهرباء ليس لها فقط, بل لتصدرها أيضا إلي الدول المجاورة. ويقول كاتب المقال: إن العمل علي خزان وادي اومو بدأ في عام2006, وحين نصل إلي2012 يكون هناك خزان ارتفاعه240 مترا, وهو أعلي خزان في إفريقيا وسيقوم بإنتاج1800 كيلووات من القوة الكهرومائية, مما ينتج ضعف الكهرباء التي استعملتها إثيوبيا عام2009, ومن جانب آخر قامت مجموعة من الجماعات غير الحكومية في يناير الماضي, بما فيها الجمعية الدولية للأنهار, بحملة لمنع الاستمرار في المشروع. وفي بيان تقول الجمعية: إن الخزان إن لم يتوقف إنشاؤه سيؤدي إلي نقص في الغذاء, ومجاعة دائمة, وانخفاض في المستوي الصحي, وصراعات بين الجماعات المحلية, وهذا من شأنه أن يخلق صراعا للسيطرة علي مصادر الثروة المحلية وهي شحيحة فعلا, ويقول البيان: إن الخزان سيؤدي إلي انخفاض مستوي مياه بحيرة توركانا بنحو عشرة أمتار, وهذه البحيرة الموجودة علي حدود كينيا تأخذ أربعة أخماس مياهها من نهر اومو, والتغيرات المنتظرة ستؤدي إلي تهديد مئات من الآلاف من سكان كينيا وإثيوبيا. ويقول الكاتب: إن كلا من البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي عبرا عن شكرهما تجاه الخزان, ومن ثم فإن حكومة إثيوبيا اتجهت إلي الصين, وفي19 مايو قامت إثيوبيا بتوقيع اتفاقية مع الصين بخصوص إنشاء الخزان منحتها459 مليون دولار, وتقدر تكاليف بناء الخزان بنحو ملياري دولار. ويقول أحد الباحثين في معهد الدراسات الأمنية: إن إثيوبيا لديها إمكانات كهرومائية كبيرة, وإن الحكومة تنوي زيادة إمكاناتها في هذا المجال بنسبة تسعة أضعاف خلال بضع سنوات, ويستمر الكاتب ليقول: إن2% فقط من سكان الريف لديهم الكهرباء, ويضيف: من غير المعقول أن تتم التنمية في البلاد بدون الكهرباء. ومما لاشك فيه أننا في مصر لدينا حساسية تجاه النهر, لكن برغم ذلك فإن مصر تهدر ماء النيل, ولعلي أكرر مثل اسطوانة مشروخة بضرورة الحد من ذلك الإسراف في مياهنا, وأذكر أن صديقا إنجليزيا كان يزورني وحين تركنا المنزل شاهدت بواب العمارة المقابلة لنا وهو يرش أمام العمارة بالخرطوم الذي تندفع منه المياه بقوة, وتسمر صديقي الإنجليزي وجعل ينظر إلي البواب ثم قال: حقا إن نهر النيل قد دللكم, وذكرني بأيامي في لندن بعد الحرب العالمية الثانية, والتعليمات الخاصة بتوفير المياه, وكيف أن الإنجليز توقفوا عن استعمال الدش في الاستحمام, وكانوا يملأون نصف البانيو فقط. أذكر أنه في عام1964 بعد حصول معظم الشعوب الإفريقية علي استقلالها بدأت اليونسكو مشروعا كبيرا لكتابة تاريخ إفريقيا, وهو, كما جاء في بيان المنظمة تاريخ خال من العنصرية الناتجة عن تجارة الرقيق والاستعمار, وأن يكون معبرا عن وجهة النظر الإفريقية, وقد شارك في كتابة ذلك التاريخ أكثر من350 مؤرخا, غالبيتهم من إفريقيا, وأذكر أن مصر كان يمثلها الصديق الراحل الدكتور جمال مختار, وكان في ذلك الوقت رئيس هيئة الآثار, وقد تمت كتابة ذلك التاريخ في ثلاثين عاما. وقد تم نشر التاريخ في ثماني أجزاء ما بين عامي1980 و1999 وتمت ترجمته إلي سبع أو ثماني لغات, بالإضافة إلي جزء مختصر, لكن مع الأسف أن هذا الجهد الجبار لم يأخذ نصيبه من الاهتمام بسبب المشكلات السياسية في إفريقيا ولم تهتم الدول الإفريقية المستقلة بهذا التاريخ فبقيت الأجزاء في المخازن الحكومية يعلوها التراب. لكن يبدو الآن أن اليونسكو تحاول مرة أخري أن تعيد الاهتمام بذلك المجهود الكبير وتجعله أساس دراسة تاريخ إفريقيا في مدارس القارة, فبدأت بمساعدة الاتحاد الإفريقي, ومساهمة مالية من ليبيا مقدارها مليونان من الدولارات محاولة أخري في مارس الماضي. وفي منتصف يونيو عقد مؤتمر في طرابلس بليبيا حضره عدد كبير من المؤرخين والمعلمين ومندوبي الحكومات الإفريقية تحت إشراف لجنة علمية برئاسة أستاذ من الكونجو, وآخر من جنوب إفريقيا, وكان الغرض من ذلك المؤتمر إعداد مجموعة من المقررات الدراسية للمدارس الابتدائية والثانوية ليتعرف التلاميذ علي تاريخ بلادهم, ومن المنتظر أن ينتهي هذا الإعداد خلال عامين. وإني أرجو, ونحن الآن قد بدأنا مرة أخري في الاهتمام بالشئون الإفريقية, أن نحاول الاستفادة من هذا التاريخ, وأن نسأل إن كان قد ترجم إلي العربية ضمن اللغات التي تمت الترجمة إليها. إننا فعلا في حاجة إلي أن نعرف تلاميذنا المزيد عن القارة التي ننتمي إليها, والتي يجري فيها نهر النيل شريان الحياة في مصر.