عندما يتدخل رئيس الجمهورية ويوجه في7/27 بضرورة وضع قواعد شفافة وسهلة بشأن ادارة أراضي الدولة, وأن يكون التصرف فيها من خلال حق الانتفاع لفترة محددة وليس بالبيع. وضرورة تحديد الجهات التي يكون لها هذه السلطة مع رفع كفاءة الأجهزة التي تقوم بتلك المهمة.. عندما يفعل الرئيس ذلك فإنه يضيء الإشارة الحمراء أمام مسلسل الإهمال والقصور والفساد في التعامل مع أراضي الدولة والذي أصبح موضعا لاهتمام الرأي العام. من مظاهر هذا الاهتمام الجدل الذي دار بشأن تخصيص الأراضي في الساحل الشمالي والمنتجعات السكنية في القاهرة وأسعارها, والجدل القضائي والقانوني بشأن عقد بيع أراضي مدينتي والذي اعتبره الجهاز المركزي للمحاسبات مخالفا للقانون, وانتقد هيئة المجتمعات العمرانية علي إبرامها إياه, واعتراض الجمعية العمومية للفتوي والتشريع لمجلس الدولة علي عقد بيع أراضي مدينة الفاتح وعما اذا كان لوزير الاسكان الحق في التوقيع علي هذا النوع من الاتفاقيات الدولية مع عدم وجود تفويض صريح له من رئيس الجمهورية, أضف الي ذلك المخالفات الصارخة القائمة علي الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية وتغيير غرض استغلال الأراضي من الاستصلاح الزراعي الي بناء فيلات وقصور وحمامات سباحة, وبلغت الجرأة مداها بقيام بعض الشركات والجمعيات بالإعلان عن بيع أراض لاتمتلكها أصلا مما دفع بوزارة الزراعة الي تحذير المواطنين من شراء أراض قبل التأكد من وضعها القانوني. لم يكن تدخل الرئيس في هذا الأمر بدون مقدمات ودراسات مسبقة, ففي5/29 شكل الجهاز المركزي للمحاسبات لجنة لبحث ظاهرة التعدي علي أراضي الدولة المخصصة للاستصلاح الزراعي والخاضعة لولاية هيئة التعمير والتنمية الزراعية, وفي شهر يوليو قام المركز الوطني لاستخدامات أراضي الدولة بالتركيز علي الموضوع ونشرت جريدة الأهرام سلسلة من التحقيقات تحت عنوان أملاك الدولة في خطر, وينبع هذا الاهتمام من أهمية الأرض كأحد الأصول الثابتة للدولة وأحد مصادر ثروتها ويتطلب حسن استخدام موارد الدولة أن يتم ادارتها, واستثمارها بالشكل الذي يضمن أعلي عائد لصالح الشعب ولأطول مدة ممكنة, علي أن هذا الهدف ولسنوات اعترضه عدد من المعوقات والصعاب: الأول: هو تعدد الوزارات والهيئات التي تملك حق التصرف في أراضي الدولة والتي بلغ عددها13 وزارة, أهمها وزارات الزراعة والإسكان والتنمية المحلية والاستثمار والسياحة والصناعة والأشغال والموارد المائية, وارتبط بتعدد الهيئات تنوع القوانين واللوائح الحكومية والقرارات الوزارية التي تنظم عملية البيع أو التصرف في الأراضي, واختلاف القواعد التي يتم علي أساسها تحديد السعر أو الغرامات التي تفرض علي المخالفين. والثاني: القصور في كفاءة تلك الأجهزة في ممارسة عملها وعدم توافر الأدوات اللازمة للقيام به في مواجهة عصابات منظمة كانت علي استعداد في بعض الأحيان الي رفع السلاح لترويع من يواجهها أو شركات عقارية ذات حول ونفوذ, وترتب علي ذلك أن أصبح التعدي علي أراضي الدولة عملا اعتياديا ولم يتوقف التعدي علي البر بل تجاوزه ليشمل بحيرة البرلس والاستيلاء علي أرض البرلس ومطوبس, ومن مظاهر القصور أيضا عدم القدرة علي متابعة وفاء المشترين للأراضي بالتزاماتهم, ففي أحيان كثيرة قام المشتري بدفع القسطين الأول والثاني ثم توقف عن السداد لسنوات يكون ثمن الأرض فيها قد تضاعف, ولمن يريد أن يعرف الدليل علي ذلك يمكنه الاطلاع علي الكشوف المالية لبعض الشركات العقارية المسجلة في البورصة المصرية ويراجع تطور رءوس أموالها وكيف تضاعف هذا الرقم مرة أو مرتين خلال ثلاث سنوات فقط, وتفسير ذلك بالارتفاعات الضخمة التي شهدتها أسعار الأراضي بسبب أسلوب البيع بالمزايدة. ومن مظاهر قصور الأجهزة الحكومية قيام بعض هذه الشركات بتغيير الغرض من استخدام الأراضي من الزراعة الي السكن وانشاء البحيرات وملاعب الجولف, وهو انتهاك مباشر للقانون, علاوة علي الاستخدام الجائر وغير المبرر لثروة مصر من المياه الجوفية.. وأخيرا فإن هناك التقصير المتمثل في وجود فراغ تشريعي لتنظيم أوضاع واضعي اليد الذين قاموا بالاستصلاح الزراعي علي الأراضي الصحراوية بعد عام.2006 والثالث: هو ممارسات الفساد والإثراء غير المشروع, وكما كتبت من قبل فإن إحدي الآليات الأساسية لتكوين الثروة في مصر هو شراء أراض بأسعار زهيدة ثم المضاربة عليها أو الانتظار وبيعها بأسعار كبيرة, ومن مظاهر هذا الفساد قيام بعض مديريات الزراعة باعطاء تصاريح بناء علي الأرض الزراعية برغم أن ذلك يخرج عن سلطتها واختصاصها. وللأسف الشديد استمرت هذه الممارسات لسنوات واستفاد منها اعداد من أصحاب المصالح والنفوذ, لذلك كان تدخل الرئيس ضروريا لوقفها, وتحركت العجلة بسرعة ففي اليوم التالي للاجتماع مع الرئيس عقد السيد وزير الزراعة اجتماعا لمجلس ادارة هيئة التعمير والتنمية الزراعية ثم نوقش الموضوع في مجلس الوزراء, وبرزت مجموعة من التوجهات الجديرة بالترحيب والمتابعة والتي تشمل اصدار قانون موحد للتصرف في أراضي الدولة وأن يتم تطبيقه بواسطة جهاز مستقل يتبع رئيس مجلس الوزراء ويشمل اختصاصه أراضي الاستصلاح والعمران, وأن يكون التصرف وفقا لحق الانتفاع بحد أقصي99 سنة ووفقا لقواعد شفافة وواضحة, وأن يتم تقنين أوضاع واضعي اليد بأسعار اليوم بأسعار2006, وتحصيل القيمة الحقيقة لأراضي الدولة في الحالات التي تم فيها تغيير النشاط, وتم البناء علي أكثر من7% من اجمالي الأراضي ووفقا لأسعار اليوم وأن يتم سحب الأراضي من المشترين بعد5 سنوات إذا لم تكن هناك جدية في التنفيذ. وعندما يتعلق الأمر بأرض مصر وثروة مصر فلا مجال للتهاون أو التقصير ولابد من محاربة كل أشكال الفساد والانحراف, ولكن كما يقال فإن الشيطان يكمن في التفاصيل, والمهم أن تستمر هذه الصحوة من جانب الحكومة لحماية أراضي الدولة في كل المجالات, وأن تقوم كل الأجهزة الشعبية والحزبية والتشريعية والإعلامية بالإبلاغ عن أي حالات للتعدي أو الاستيلاء علي أراضي الدولة, والتأكد من أنه تم انشاء جهاز أو تنظيم جديد يكون لديه من القدرات والسلطات ما يمكنه من تحقيق أهدافه وأن تكون له أنياب وأظافر, فمحاربة التقصير والفساد لاتأتي ثمارها بالوعظ والارشاد فحسب ولكن بقوة القانون وسيفه.