نوال مصطفي كاتبة صحفية متمرسة, تعشق القص والسير الأدبية, وتنشر مجموعاتها وكتبها بانتظام منذ ثلاثة عقود, حيث تتمتع بأسلوب خلاب وحاسة أنثوية مرهفة كما تتميز بقدرتها علي رصد تحولات الحياة وقراءة أحداثها بعين ثاقبة ورؤية سردية مستنيرة, فتقدم صورة لافتة للحياة الإعلامية والوسط الثقافي في علاقاته المهنية ومناخه الإنساني, مع تسليط الضوء علي احتدام التجارب العاطفية والوجودية الحميمة. غير أنها تركز في روايتها الجديدة' الزمن الأخير' علي أزمة منتصف العمر عند الرجال والنساء الذين بلغوا العقد الخامس من أعمارهم, واكتشفوا زيف حياتهم وفراغها المخيف, وتبينوا حاجتهم الملحة لاستعادة نضرة قلوبهم وحيوية أجسادهم وتوهج مشاعرهم, مع ما يتعرضون له نتيجة لكل ذلك من عواصف عائلية, وتعقيدات عملية, وتقلبات مدهشة في دواخلهم الباطنية المستترة. لعبة الذاكرة والتحنان توزع الكاتبة اهتمامها علي عدد كبير من الشخوص منذ مطلع الرواية, قبل أن تغزل تشابك مصائرهم بأحداثها, فلا تلتزم بمنطق الراوي الواحد, ولا الرواة المتعددين, بل تأخذ حريتها في تحريك منظورها واستبطان شخوصها علي طريقة السرد التقليدي, ولكنها تختار من ذبذبات مشاعرهم لحظة حرجة تنطلق منها لاستكناه أسرار وجودهم, فهذه' شهد' الخمسينية_ التي تحمل فيما يبدو صوت الكاتبة وتقاربها في الثقافة والعمر_ تقع فريسة أزمة داخلية, نتيجة مراقبتها لأمها القوية الجبارة وهي تقع في هوة ضياع الذاكرة' المرأة الاستثنائيةالتي وقعت في سجن النسيان, كانت تجلس معها ساعات تحاول أن تداعب ذاكرتها دون جدوي, وكانت تري في عينيها الكثير من الكلام المعتقل.. ياالله ياأمي.. أرجوك تكلمي.. هل مسح عقلك كل ما كتب داخله من أحداث ؟ هل أخطأت, وضغطت علي المفتاح الخطأ في ال'كيبورد' وداس إصبعه علي مفتاح'delete' لإلغاء حياة كاملة فتكون ردة فعلها هي العكوف الهيستيري علي ألبوماتها وصورها كي تؤرخها وتفهرسها وتسجل ذكرياتها, كأنها تريد أن تطرد شبح النسيان العشري وإلغاء الذاكرة تشبثا بالحياة. فإذا ما زارهم صديق زوجها' طارق' الخارج بصمته هو الآخر من محنة انهيار حياته العائلية في مهجره الإنجليزي, وعرفت منه أنه يشرع في كتابة بحث عن الذاكرة والحنين إلي الماضي, وعرض عليها أن يعقد معها جلسات عملية تحكي فيها تجربتها مع ذاكرتها, حتي تتهيأ له, وتتفنن في كشف أسرارها أمام عينيه في سهرة رائقة, فتشعل في روحه جذوة حب الحياة بأناقتها وأسلوب ضيافتها,' شكرها بمشاعر نابضة, والتهم الأطباق اللذيذة التي أعدتها أحس بنشوة آسرة لم يحسها منذ فترة, وتمني أن يتوقف عندها الزمن, مما جعله يستدعي أبيات قصيدته الأثيرة لمحمود درويش' علي هذه الأرض ما يستحق الحياة' ويترك نفسه لتأثير الموسيقي الخافتة التي أدارتها شهد لجلسة حميمة ازدانت بألوان الزهور المتناسقة وتراقص ضوء الشموع, كانت شهد مأخوذة بالتجربة الجديدة, تسيطر عليها مشاعر طفولية متضاربة, فهي سعيدة بالشراكة مع إنسان تحترمه وترتاح إليه مثل' طارق' الأستاذ الجامعي المرموق بأوكسفورد والكاتب المحترف, فهي بشهادته ليست مريضة نفسية, بل تشاركه تجربتها في الكتابة عن الذاكرة' وبينما هي تمضي في هذه الجلسات تجد نفسها مدفوعة إلي التطهر بالاعتراف له بآخر تجاربها في العشق, حيث استأنفت علاقتها بخطيبها الأول بعد انقطاع سنوات طويلة, شرحت له ذلك الصراع الرهيب الذي كان يلازمها خلال سنوات العشق والذوبان, كما اعترف طارق لها أيضا بأسرار انكشاف خيانته لزوجته الإنجليزية ودوره في تدميرها نفسيا, وتتوالي سلاسل الخيانة المتبادلة لتجعل من هذا الزمن الآخير زمن الخيانات الزوجية. اللواصق الواقعية تنسج نوال مصطفي شبكة علاقات الشخوص, وتطورات عواطفهم ومغامراتهم بمهارة حقيقية, تكشف فيها عن غوايات الحياة المعاصرة, وتضرب علي الوتر الحساس في مشاعر الغيرة والتفهم التي تفصل بين الآباء وبينهم خلال تصدع العائلة, وما تستشعره البنت من نقمة علي أمها التي تفضل رجلا آخر علي أبيها, حتي تتعرض بدورها لقسوة زوجة الأب فترتمي في حضن أمها, تصور الكاتبة هذه التفاصيل بعمق وشعرية نفاذة, ولكنها تلجأ إلي استحضار بعض الأسماء والرموز والأحداث المعروفة لتأكيد وهم واقعية السرد, فتحكي عن بيت العائلة الذي تنتقل إليه شهد بالسيدة زينب بعد طلاقها من زوجها, وكيف أصبح هذا البيت منتدي لشباب العائلة وأصحابهم, يتمتعون فيه بسماع أحمد الشهاوي وهو يرتل بعض قصائده التي توردها الكاتبة, كما تشير إلي تشبيههم لهذا البيت ببيت الأحلام الذي كتب عنه أنيس منصور في' شارع التنهدات' وتشير إلي كتاب جابر عصفور ضد التعصب وتسمي الحفلات الموسيقية التي يستمعون إليها, والندوة التي يعقدونها لمناقشة رواية' واحة الغروب' لبهاء طاهر, وتمعن في تكثيف هذه الإشارات الخارجية في الجانب السياسي فتجعل الشباب يتحدثون عن مظاهرة حرق العلم الإسرائيلي في الجامعة الأمريكية, وتدفع طارق كي يحكي لهم قصة مذابح صبرا وشاتيلا, دون أن يكون لكل ذلك علاقة عضوية بمجري الأحداث التي تقتصر علي قصص الحب والخيانة, مما يجعل هذه الإشارات مجرد لواصق مضافة إلي سطحها, لاتقوي علي استحضارالأزمنة الأخيرة بكل زخمها وحيويتها, فواقعية الأعمال الفنية تتمثل في تقطير روح العصر وتجسيدها في نماذج ومواقف إنسانية, وبقدر ما كانت الكاتبة موفقة في إشارتها لقصيدة درويش عما يستحق الحياة لأنها تنبع من صميم وعي البطل فإن حشد بقية المظاهر الأخري في بيت العائلة وإقحامها في السرد كان أشبه بإشعال إضاءة مخالفة لنسق الألوان في المتخيل السردي حيث تهتك سره, خاصة في مناخ هذه الرواية المخملية الناعمة, ذات الرفيف الشعري, والبهجة الموغلة في كشف نشوة الحياة وبث عطرها الأنثوي السحري.