هل اختفي الوزير السياسي؟!.. نعم.. فالتعديل الوزاري المحدود الذي شهدناه الأيام الماضية يؤكد أن فكرة اختيار وزراء من أصحاب التربية السياسية لم تعد في الحسبان. وأصبح واضحا أن الحكومة قد استسلمت لتركيبة الوزراء التكنوقراط الذين جاءوا من الجامعات والموظفين الذين تدرجوا في مناصبهم حتي جلسوا علي مقعد الوزير. وزيران.. الدكتور أحمد زكي بدر وزير التربية والتعليم ابن مدرسة الجامعة تكنوقراط, أما علاء فهمي وزير النقل فهو ابن مدرسة التدرج الوظيفي.. لا توجد خلفية سياسية بمفهوم التربية أو الممارسة الحقيقية. هذه الطريقة لا تختلف كثيرا عن طريقة اختيار المحافظين فالكيفية واحدة والآلية مشتركة.. لكن السؤال الذي طرح نفسه بقوة هو: لماذا اختفي الوزير السياسي؟! ولماذا غابت التربية السياسية لكوادر يتم تأهيلها لتولي المناصب القيادية ومنها الوزراء؟! وأيهما أفضل الوزير السياسي أم الوزير التكنوقراط؟! بداية منذ عام1976 اختفت التربية السياسية للوزراء منذ حل منظمة الشباب, ودخل أساتذة الجامعة مقاعد الحكومة وتراجعت الأحزاب عن تقديم قيادات سياسية؟ وظلت الاختيارات تخضع لمعايير أخري, ربما تكون العلاقات العامة واحدة منها, فبرغم أنه في مصر كل حكومة لها طعم ولون ورائحة فإن الحكومات التي تعاقبت علي مدي ما يقرب من ربع قرن تؤكد أن هناك مفارقات في الاختيار ومفاجآت يتحملها من يقوم بتشكيل حكومته, فها هو التاريخ يشهد علي تجارب مثل حكومة الراحل د. عاطف صدقي الذي جاء بحكومة عرفت باسم حكومة الطاولة والتي كان أعضاؤها من أساتذة الجامعات الذين تزاملوا في باريس وكان من أبرز هذه المجموعة المرحوم الدكتور جلال أبوالدهب وزير التموين, والدكتور محمد الرزاز وزير المالية, والدكتور يسري مصطفي وزير الاقتصاد, وها هي حكومة د. عاطف عبيد فقد جاء إلي الوزارة برؤساء شركات قطاع الأعمال الذي كان وزيرا له, ليدخل علي التركيبة الوزارية في مصر نوعا جديدا من الوزراء, وكان من أبرزها الدكتور حسن يونس وزير الكهرباء الذي كان رئيسا للشركة القابضة, والدكتور ممدوح رياض الذي شغل منصب وزير البيئة والذي كان قبلها رئيسا للإدارة المركزية للتشجير في وزارة الزراعة, هذا فضلا عن وزير النقل المهندس حمدي عبدالسلام الشايب الذي كان رئيسا لشركة بتروجت, والدكتور عوض تاج الدين الذي كان رئيسا لجامعة عين شمس وتولي منصب وزير الصحة. ربما تكون هذه الأسماء نماذج تعكس مشهد الحكومات المتعاقبة, وربما نختلف أو نتفق حول تجربة الوزير السياسي والوزيرالتكنوقراط, وربما يحقق الوزير نجاحا بالمصادفة وربما يكون لكل منها إيجابياته, لكن في النهاية لابد من العودة إلي نسبة كبيرة عند الاختيار لفكرة الوزير صاحب التربية السياسية لاسيما أنها حققت نجاحات ملموسة. إلي ذلك فإن المدارس السياسية لتخريج الوزراء ليست ابتكارا مصريا, ففي معظم انحاء العالم توجد كليات وجامعات ومعاهد اشتهرت بأنها مفرخة السياسيين, وفي مصر قبل الثورة كانت كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول القاهرة حاليا هي مدرسة الوزراء, وبعدها لعبت منظمة الشباب هذا الدور. رؤية سياسية الدكتور أحمد كمال أبوالمجد وزيرالشباب والاعلام الأسبق وأحد الذين تخرجوا في منظمة الشباب لم يخف ميله, وانحيازه الشديد لتجربة الوزراء السياسيين, مؤكدا أن لهم إيجابيات كثيرة بحسب التجارب منذ أيام قبل الثورة وحتي الآن, فالوزير ليس بالضرورة أن يتولي وزارة في نفس تخصصه, فليس مهما أن يكون وزير الصحة مثلا طبيبا, فالمطلوب أن يكون للوزير رؤية سياسية هدفها خدمة المجتمع وتعكس قدرا من الانتاج والتفاعل الايجابي, شريطة أن يكون الوكيل الدائم للوزير أو نائبه رجل تكنوقراط يمتلك الأدوات الفنية لتنفيذ السياسة العامة للوزير. غير أن د. أبوالمجد يتوقف بقلق شديد عند طريقة الاختيار, واصفا إياها بأنها تتم بالمصادفة وربما يفشل وبالمصادفة أيضا. أما الملمح الأخطر في وجهة نظر د. أبوالمجد فهو أن العلاقات الشخصية تلعب دورا كبيرا في طريقة الاختيار, ولذا فإنه لابد من إنشاء منظمة قومية للشباب يشارك فيها طلاب الجامعات والمدارس بدءا من سن15 عاما وحتي20 عاما لينغرس هذا الجيل في مبادئ العمل السياسي وبعدها ينطلق كل منهم في طريقه حسب اتجاهاته وايديولوجياته, وفي ظل هذه الفكرة يمكن تربية جيل يمكن الاستفادة منه في تولي مناصب وزارية. وقبل أن ينهي د. أبوالمجد حديثه يؤكد أن حياة الناس تحتاج قدرا من الرؤية السياسية وليست الرؤية التكنوقراطية. تسييس الآراء المهندس حمدي الطحان رئيس لجنة النقل والمواصلات بالبرلمان يفسر الابتعاد عن اختيار الوزير السياسي بأن الحكومة نفسها لا تهتم بتسييس ادائها, كما أن الحساب غائب فيما يتعلق بالمسئولية السياسية عند حدوث أية كارثة, وهنا يضرب الطحان مثلا: بجريمة الغش الجماعي بالثانوية وغرق العبارة السلام1998, وحادث انهيار صخرة( الدويقة) وفي هذه الحالة إذا كان لايوجد من يحاسب علي المسئولية السياسية, وإذا كان البرلمان المنوط به ذلك لم يتحرك لتغيير أو إقالة حكومة في مثل هذه الكوارث التي تحدث فإنه من الطبيعي أن تبتعد الأنظار عن اختيار الوزير صاحب التجربة السياسية, غير أن الطحان يشير إلي أن نقطة غاية في الأهمية وهي أن المسئول يميل لاختيار التكنوقراط والموظفين لأنهم يكونون أكثر ولاء وأكثر طواعية لمن اختارهم ويسهل السيطرة عليهم. اعتبارات واضحة غير أن الدكتور جهاد عودة أستاذ العلوم السياسية يؤيد بقوة فكرة اختيار الوزير السياسي مؤكدا أنه الأقدر علي تحقيق النتائج التي تصب في المصلحة العامة, لكن شريطة أن يتم ذلك في إطار نظام سياسي واضح وليس وفقا لمعايير شخصية أو علاقات خاصة أي بعيدا عن فكرة الشخصنة. لم ينكر د. عودة أن الوزير التكنوقراط لديه مشاكل عديدة في مقدمتها عدم إدراكه بالأبعاد السياسية أو المقتضيات التي يتطلبها نظام سياسي عام وبين التي يحتاجها المجتمع. في السياق ذاته نجد الكاتب الصحفي صلاح عيسي رئيس تحرير جريدة القاهرة يطالب بعدة تعديلات دستورية تسمح بتوسيع صلاحيات رئيس مجلس الوزراء في السلطة التنفيذية لكي يستطيع أو علي الأقل أن يشارك بشكل حقيقي في الاختيار, كما أنه بعد ثورة يوليو بدأت مصر تتجه إلي الوزير التكنوقراط وغاب الوزير السياسي, ولكن في الحقيقة فإن التجارب أثبتت أن التكنوقراطي لاجدوي منه, وأنه لابد من العودة إلي الوزير صاحب التربية السياسية, وهذا يتطلب تأسيس منظمات سياسية تهدف لتربية كوادر يمكن الاستفادة بها, فضلا عن أن عدم انتعاش الحياة السياسية داخل الأحزاب أدي إلي تجميد الحراك الحزبي والتوقف عند جيل بعينه وخلق حالة من الجمود الذي أدي إلي أزمة حقيقية في مختلف المجالات اسمها أزمة الصف الثاني أو إعداد قيادات جدد, وقبل أن ينهي صلاح عيسي كلامه يطالب بشدة بعودة الوزير السياسي ولو بنسبة ملحوظة في التغيير الوزاري المرتقب في الفترة القادمة لكي يكون خطوة مهمة للعودة إلي نظام الحكومة السياسية وليست التكنوقراط.