لم يعرف الرأي العام الأمريكي والعالمي تفاصيل الحرب بالوكالة التي خاضها المجاهدون الأفغان ضد الغزو السوفيتي نيابة عن الولاياتالمتحدة في بلادهم إلا بعد سنوات وبعضها من أفلام سينمائية مثل فيلم حروب تشارلز ولسن الذي روي القصة الخفية لعضو الكونجرس الذي نجح في اقناع الكونجرس بإمداد المجاهدين بصواريخ أرض جو لإسقاط طائرات الهليوكوبتر السوفيتية, وهو ما غير من موازين الحرب وألحق بالسوفيت هزيمة نكراء.. واليوم لا يحتاج العالم إلي وقت طويل لمعرفة أسرار ما يحدث في أفغانستان بفضل' موقع إلكتروني' واحد علي شبكة الإنترنت تأسس قبل ثلاث سنوات ليغير من لعبة سرية الوثائق ويكتشف الأمريكيون أمس فقط أن ميراث الحرب الباردة يرتد إليهم بعودة الصواريخ' أرض-جو' من قبضة المجاهدين إلي قبضة حركة طالبان وأن القوات الأمريكية قد ذاقت في السنوات التسع الماضية بعضا من مرارة ما تجرعه السوفيت. قصة الوثائق كشف موقع ويكيليكسWIKILEAKS عن92 ألفا من الوثائق السرية للحرب الأمريكية في أفغانستان في أكبر وأضخم عملية تسريب لوثائق في التاريخ العسكري الأمريكي علي الإطلاق, وهي عبارة عن برقيات ومخاطبات من رجال المخابرات والدبلوماسيين في أفغانستانوباكستان بشأن شائعات ومعلومات وتقديرات استخبارية عما تواجهه الولاياتالمتحدة علي الأرض وبخاصة العلاقات مع المخابرات الباكستانية التي تثار حولها شكوك بالتعاون مع حركة طالبان الأفغانية منذ فترة في ضوء ما يراه مراقبون تخوف باكستان الواضح من بناء الهند الخصم التقليدي مجالا للنفوذ في مناطق جنوبأفغانستان. وتأتي الوثائق في توقيت مثالي لمنتقدي السياسة الأمريكية والغربية في أفغانستان خاصة ما يتعلق بنوايا حكومة باكستان وأجهزة مخابراتها ومدي إمكانية التعويل عليها في مواجهة المتشددين الإسلاميين. وقالت جين بيرليز مراسلة' نيويورك تايمز' المخضرمة في إسلام أباد إن الوثائق التي اطلعت عليها تقدم صورة شبه واضحة عن' الملاذات الامنة' التي توفرها باكستان لمقاتلي طالبان. علي سبيل المثال تذكر الوثائق السرية في ثمانية مواضع أن حميد جول الرئيس السابق للاستخبارات الباكستانية- المستشار الحالي للمخابرات الباكستانية بعد تقاعده- قد أمر بشن هجمات ضد القوات الأفغانية والدولية في ديسمبر عام2006, وتآمر علي خطف موظفين تابعين للأمم المتحدة واستخدامهم كرهائن مقابل مجموعات من المسلحين المعتقلين. وكان جول يقول عن نفسه في الماضي إنه' قرة عين واشنطن' لدوره المهم في تسليح المجاهدين الأفغان ضد السوفيت. كما تشير190 وثيقة إلي أن المخابرات الباكستانية قد دعمت هجمات ضد قوات حلف شمال الأطلنطي, بل إن تقريرا يعود إلي مارس2007 قال إن رجال الاستخبارات قدموا ألف دراجة بخارية لقائد الميليشيات المعروف جلال الدين حقاني لشن عمليات انتحارية داخل أفغانستان. وهناك عدد من الاكتشافات الجديدة اللافتة منها: * حركة طالبان استخدمت الصواريخ المحمولة الباحثة عن الحرارة ضد الطائرات الحليفة, وقد ساعد هذا النوع من الأسلحة المجاهدين الأفغان علي هزيمة الاحتلال السوفيتي في الثمانينات من القرن الماضي. * قيام وحدات كوماندوز سرية مثل الفرقة373 علي تنفيذ عمليات اغتيال لمطلوبين في قائمة تسمي' قائمة القبض القتل' والتي تضم70 رأسا. تلك المهمات الخاصة والتي زادت في ظل إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تحقق نجاحات ملحوظة لكن التنفيذ أسفر في بعض الأحيان عن مقتل مدنيين واذكاء مشاعر الاستياء الأفغاني. * الجيش الأمريكي يستخدم الطائرات بدون طيار لمسح ميدان المعركة وضرب أهداف في أفغانستان علي الرغم من أن مستوي الأداء أقل تأثيرا من الإعلانات الرسمية. دائرة الشك قصة ظهور ال76 ألف وثيقة الخاصة بالحرب في أفغانستان( من يناير2004 إلي ديسمبر2009) علي موقع' ويكيليكس' من أصل91 ألف وثيقة ليست بسيطة ولكنها واحدة من الحوادث التي سيؤرخ لها في تاريخ تسريبات الوثائق السرية. هنا نتوقف عند مالا تنطق به الدوائر الرسمية والإعلامية الأمريكية وهو احتمال تسرب الوثائق من داخل الأجهزة الأمريكية نفسها وبعلم من قيادات بعينها- بعد تنقية الوثائق مما يعرض القوات علي الأرض للخطر- بهدف تعرية مواقف باكستانية معينة في ظل حالة متزايدة من عدم الرضا في واشنطن عن الحليف المشكوك في ولائه في الحرب علي الإرهاب تحت ضغط التعقيدات الراهنة للسياسات الداخلية والإقليمية. ويدعم هذا التصور الحجم الهائل للوثائق, فالمعروف أن الوثيقة الأكبر التي حصل عليها الموقع قبل هذا السبق الضخم كان شريط فيديو في إبريل الماضي والذي يظهر قيام طائرة هليوكوبتر أمريكية باغتيال مصور عراقي يعمل لوكالة رويترز- للشك في أنه مسلح خطير- في مطاردة مثيرة في شوارع بغداد انتهت بقصف سيارة الإسعاف التي أقلت المصور بعد إصابته في الضربة الأولي. وقد أحالت السلطات الأمريكية برادلي ماننينج محلل الاستخبارات المتهم بتسريب شريط الفيديو للمحاكمة العسكرية بعد إلقاء القبض عليه. وتدور الشبهات اليوم حول برادلي نفسه الذي دفعه المناخ السلبي للسياسات الأمريكية في العراق وأفغانستان إلي تسريب شريط الفيديو وقبل سقوطه في قبضة الأجهزة الأمريكية تحدث مع احد قراصنة الإنترنت أنه سيقوم بالكشف عن' الحقيقة في حرب أفغانستان'. واتضح أن طبيعة عمل برادلي منحته فرصة الدخول علي اثنتين من شبكات المعلومات عالية التأمين. وحسب المتوافر من التحقيقات قال برادلي في حديثه مع قرصان الإنترنت إنه قام بتحميل260 ألف برقية للاستخبارات الأمريكية وقام بإرسالها إلي موقع' ويكيليكس' عبر الكمبيوتر. كما قام بنسخ معلومات سرية علي قرص مدمج' سي دي' كان يحمل غلافا للمطربة الأمريكية المعروفة' ليدي جاجا'. وقد قام قرصان الإنترنت' هاكر' بالإتصال بالمخابرات العسكرية وتسليمهم نسخة من الحوار عبر الإنترنت مع برادلي في مايو الماضي وذلك خشية أن تكون المعلومات التي في حوزته تمثل خطرا حقيقيا علي القوات الأمريكية في حال خروجها للعلن. في اليوم التالي ألقت المخابرات الأمريكية القبض علي رجلها في بغداد. ورغم الأدلة ضد برادلي إلا أن الخبراء في مجال الاستخبارات يقولون إنهم لا يستبعدون وجود شركاء أخرين في هذه القضية الكبري. التسرب العمدي.. جائز! ولكن في الجانب الاخر الوثائق الجديدة تخص فترة ما قبل إعلان الرئيس أوباما عن استراتيجيته الجديدة في أفغانستان عام2009, وهو الموعد الذي تتوقف عنده الوثائق أيضا وهو ما يعطي انطباعا بأن الإدارة تريد كشف ما فات لترفع عن كاهلها بعض النقد! ومن زاوية أخري يبدو الخبراء في غاية الحذر حيث ينتظرون الإطلاع علي كامل الوثائق في صورتها' الخام' قبل إصدار أحكام بشأنها حيث أن كل برقية سرية يجب إثبات مصداقيتها من مصادر متعددة قبل اعتمادها وثيقة والأمر الأخر أن رواية العملاء علي الأرض تصنف علي انها تقارير استخبارية في مستوي مصداقية' منخفض' ولا تقدم أدلة دامغة. ورغم تأكيده أن تسريب ونشر الوثائق ضد القانون إلا أن المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت جيبس انتقي كلماته بحذر شديد أمس الأول وقال إنه يختلف مع توصيف مؤسس الموقع جوليان أسانجي للإستخبارات الأمريكية بأنها ترتكب أفعالا أقرب إلي جهاز استخبارات ألمانياالشرقية الشهير في عهد الشيوعية' إستاسي'. بشكل عام خروج هذا الكم من الوثائق للعلن يحمل الإدارة الأمريكية عبء الرد علي الشكوك حول مصداقية السياسة المتبعة في أفغانستان والعلاقات الإستراتيجية مع باكستان, ولن يقف الرأي العام طويلا أمام الطرف الذي سرب الوثائق او الجريمة التي يجب ملاحقتها في هذا الشأن. ومن اللافت رد فعل السيناتور الديمقراطي جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الذي قال' رغم ظهور الوثائق بطريقة غير شرعية إلا أنها توفر فرصة جيدة لطرح اسئلة جادة حول حقائق السياسة الأمريكية تجاه باكستانوأفغانستان وتضع خطا حول ما يجب مراجعته'. وبالفعل الوثائق فرصة سانحة لتدخل الكونجرس أكثر في السياسة الأمريكية في أفغانستان لو استمرت وزارة الدفاع' البنتاجون' في التأكيد أن طبيعة الوثائق المتسربة- من واقع ما درسته حتي الان- غير مضر بالقوات علي الأرض والأمن القومي الأمريكي بشكل عام. وسوف ينشغل الرأي العام الأمريكي لفترة من الوقت بقصة الوثائق وربما يقفز الكونجرس إلي ملعب صناعة القرار ليشارك الإدارة في تبعات الورطة الحالية, لكن المؤكد أن العلاقة بين واشنطن وإسلام أباد في طريقها إلي مزيد من الاحتقان حتي لو كانت الحكومة الباكستانية هي الأعلي صوتا في شجب مضمون واستخلاصات الوثائق لأن الأمريكيين ينتظرون ترجمة مليارات الدولارات التي تتدفق علي باكستان في صورة مساعدات عسكرية إلي أفعال لصد تنامي نفوذ طالبان وشقيقاتها. وهكذا.. خرج الأمريكيون من تسرب بقعة الزيت العملاقة في خليج المكسيك إلي تسرب وثائق الحرب علي الإرهاب في دراما جديدة تثير علامات تعجب كثيرة في واشنطن.