هناك دائما توجه مصري نحو إفريقيا, وإن اختلفت أبعاد ووسائل وأهداف هذا التوجه من عصر الي عصر, ابتداء من ولاية محمد علي باشا ووصوله الي منابع النيل وشواطئ القرن الافريقي. عند المحيط الهندي في النصف الأول من القرن ال18 الي مصر الملكية ومناصرتها للحبشة لمواجهة العدوان الايطالي( الفاشيستي)1936/1935, وتنازل مصر عن حقها التاريخي في اريتريا عام1948 تأكيدا لحق شعب اريتريا في الاستقلال. وكان كتيب فلسفة الثورة للرئيس عبدالناصر عام1954 أول وثيقة مصرية حديثة حاولت رصد دوائر ثلاث رئيسية للتحرك الخارجي هي: الوطن العربي, إفريقيا, العالم الإسلامي. وعملية الرصد المبكرة في حد ذاتها لم تكن تسجيلا لجذور وشائج الانتماء الحضاري والتاريخي المصري لتلك الدوائر فحسب أو تشخيصا لواقعها المرير فقط, وانما كانت أيضا وفي الأساس رؤية مستقبلية لآفاق نهضة الدوائر الثلاث ودور مصر المنتظر علي صعيدها كأداة ربط من منطلق الدور الريادي المصري الذي يفرضه الموقع الاستراتيجي أو بالأصح عبقرية المكان ذلك المصطلح الذي صكه بمهارة العالم الجغرافي المصري الراحل د. جمال حمدان في موسوعته عن شخصية مصر. ولقد أدركت السلطات الاستعمارية في افريقيا أبعاد عبقرية الموقع الجغرافي لمصر منذ وقت مبكر ويكفي الاشارة هنا الي مشروع خط( القاهرة الكاب) وهو مشروع خط سكك حديدية استعماري سعي الي اقامته الاستعماري المعروف سيسل رودس, وهو بصدد توسيع وتثبيت النفوذ البريطاني بالجنوب الافريقي أواخر القرن التاسع عشر, وروج رودس لانشاء هذا الخط ليربط المستعمرات البريطانية بطول القارة, أي من مستعمرة الرأس( أو مستعمرة الكاب أو الكيب) أقصي الجنوب الافريقي الي القاهرة وصولا الي بورسعيد أقصي الشمال الافريقي, ونجح رودس في مد الخط الي سالسيوري( هراري الآن زيمبابوي) عام1899, إلا أنه فشل في مفاوضاته مع الحكومات المختلفة لاستكمال الخط الي القاهرة. وكان يمكن لمثل هذا الخط الحديدي بين مصر وجنوب افريقيا لو تم انشاؤه آنذاك أن يغير كثيرا في مسار التطور السياسي لمحطات هذا الخط بين القاهرة والكاب مارا ببتشوافا لاند( بتسوانا حاليا) وتنجانيفا( جزء من تنزانيا الآن) وأوغندا وكينيا ثم السودان. وإذا استرجعنا وقائع نشوء وتطور حركات التحرير في مثل تلك المستعمرات البريطانية منذ أوائل الخمسينيات( من القرن ال20) وحتي استقلالها في الستينيات لكان مثل هذا الخط فيما لو أنشئ وقتها عاملا قويا من عوامل تعاظم الوعي السياسي بين شعوب هذه المستعمرات. وأغلب الظن أن السلطات الاستعمارية كانت سوف توقف تشغيل هذا الخط الحديدي مع قيام ثورة23 يوليو1952 التي لم تتردد منذ سنواتها الأولي في دعم جميع حركات التحرير الافريقية. {{{ أيا كان الأمر فإن مصر الثورة قد نجحت بدون خط القاهرة الكاب, أن تقود ثورة التحرير سواء في المستعمرات البريطانية أو غيرها من بقايا الامبراطوريات الاستعمارية الفرنسية والبلجيكية والبرتغالية في القارة الافريقية, ولم يكن استقلال اكثر من45 دولة افريقية بعيدا عن الدور المصري العظيم في القارة الافريقية. وتحفظ افريقيا الأم جميل ماصنعته مصر, وتدور عجلة تاريخ القارة لتدشين مصر أيضا الفصل الأخير في تحرير افريقيا( كما دشنت من قبل فصل التحرير الأول) بدعوة الرئيس حسني مبارك( بصفته رئيسا لمنظمة الوحدة الافريقية عام1994) لإعلان قيام أول دولة ديمقراطية غير عنصرية في جنوب افريقيا بعد اجراء انتخابات ابريل1994 ويتحقق للمرة الأولي قيام خط القاهرة الكاب السياسي ولكن في عصر تحرير افريقيا من الاستعمار والعنصرية معا. {{{ هكذا كان ومازال قدر مصر دائما باعتبارها أقدم استقلالا, أن تقدم دعمها لحركات التحرير الافريقية, وكانت دروس حرب السويس قد ألهمت حركات التحرير الافريقية في الخمسينيات والستينيات, وقد تسلحت بعض هذه الحركات برشاش بورسعيد( انتاج المصانع الحربية المصرية) كما تم تدريب كوادر كثيرة من ثوار افريقيا بالقاهرة, ثم جاءت حرب اكتوبر1973 لتستحوذ علي اهتمامات الرأي العام الافريقي ويعتبرها أساسا كحرب تحرير افريقية تركت بصماتها علي مسيرة الكفاح الافريقي, ولا عجب ان تنهار بعدها بقايا أربع امبراطوريات استعمارية في افريقيا, حيث استقلت آخر المستعمرات البرتغالية( غينيا بيساو, جزر الرأس الأخضر, انجولا, موزمبيق, ساوتومي وبرنسيب) وآخر المستعمرات الفرنسية( جيبوتي وجزر القمر) وآخر المستعمرات البريطانية( سيشل, وزيمبابوي) كما انسحبت القوات الاسبانية من الصحراء الغربية. {{{ وواكب سنوات الاستقلال الأولي اسهام ثورة23 يوليو في مشروعات التنمية الافريقية بتقديم المزيد من الخبرات والمعونات الفنية المصرية. وكان دور مصر في افريقيا منذ23 يوليو1952 قد ربط الكفاح العربي بالكفاح الافريقي, ولم يكن انعقاد مؤتمر القمة العربي الافريقي الأول بالقاهرة عام1977 إلا ترجمة حقيقية لدور مصر باعتبارها حلقة الوصل بين افريقيا والوطن العربي وحلقة الوصل أيضا بين افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية فقد اسهمت ثورة يوليو في استحداث دوائر جديدة للتحرك علي المستوي الدولي وفي مقدمتها دائرة عدم الانحياز ودائرة الدول النامية( المسماة بمجموعة ال77) وكان من الطبيعي ان ترتبط ثورة23 يوليو منذ انطلاقتها عام1952 وحتي الآن مع شعوب العالم الثالث علي مستوي تلك الدوائر الثلاث. [email protected] المزيد من مقالات د. أحمد يوسف القرعى