في إطار التغطية الممتدة المتميزة التي قامت بها جريدة الأهرام تحت عنوان منابع النيل, حظي الحديث عن العلاقات المصرية الإثيوبية بالاهتمام..وتناولت الجريدة من أكثر من زاوية وبعدة أشكال صحفية( الرأي والحوار والتحقيق الأربعاء30 ديسمبر الماضي) الاستفاضة حول الأهمية التاريخية للعلاقة بين البلدين بفضل نهر النيل الشريان الحيوي. الذي يربط بينهما من جهة, وبين الكنيستين الأرثوذكسيتين المصرية والإثيوبية.. بيد أن الصورة لا تكتمل تفاصيلها إلا بالحديث عن الرابطة التي تربط بينهما من جهة أخري وأقصدالبحر الأحمر.. وذلك لأنه قد أتاح تاريخيا لمصر التواصل التجاري بين مصر وافريقيا عامة وإثيوبيا خاصة منذ الفراعنة من جهة, كذلك اكتشاف الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر من جهة أخري.. وهو ما ينبغي أخذه في الحسبان عند الحديث عن هذه العلاقات بالإضافة لكل ما ذكر. فمن جهة العلاقة التاريخية أولا التي تعود لزمن الفراعنة, يقول الكاتب الصحفي الكبير الراحل صلاح الدين حافظ في كتابهصراع القوي الكبري في القرن الإفريقي ان البحر الأحمر كان طريق مصر الفرعونية إلي قلب إفريقيا مارا بالسودان وصولا إلي الحبشة.. والثابت أن البخور لأهميته في الطقوس الدينية عند الفراعنة قد أدي دورا سياسيا وتاريخيا في توثيق العلاقة بين حضارات الفراعنة في وادي النيل ومناطق أعالي النيل, وبخاصة بحر الغزال والنيل الأزرق وقد كان الملك ساحورع(2553 2539 ق. م) هو أهم من أرسل أساطيله إلي بلاد بنط( السواحل الجنوبية للبحر الأحمر وإريتريا ومنها إلي إثيوبيا) لجلب البخور والعطور اللازمة للطقوس الدينية في المعابد الفرعونية, بالإضافة إلي المعادن النفيسة وبخاصة الذهب والفضة والأخشاب النادرة. وواصل أسطول الملكة حتشبسوت(1490 1469 ق.م), الارتحال إلي بلاد بنط حيث اتخذت طريق البحر من السويس, التي كان بها ترسانة لبناء السفن, ثم اتجهت جنوبا في البحر الأحمر وعادت منه محملة بالبضائع المتنوعة. وواصل خليفها تحتمس الثالث هذا الأمر.. وهكذا مثلما تدفقت روافد النيل من الهضبة الحبشية مندفعة إلي الشمال حتي دلتا مصر تدفقت التجارة والمعرفة والحضارة بين مصر والحبشة وجاراتها عبر البحر الأحمر. ونتيجة لهذه الرحلات من خلال البحر الأحمر إلي إفريقيا عموما والحبشة خصوصا, عرفت مصر القديمة التجارة ومدي أهميتها في توثيق العلاقات بين الدول.. وهنا نشير إلي ما طرحه السفير طارق غنيم( في حديثه إلي الأهرام) إلي أن وجود فرص جادة للمستثمرين قادر أن يوقف حالة الشد والجذب بين مصر وإثيوبيا.. وهو هنا يؤكد ما أقدم عليه أجدادنا منذ آلاف السنين عبر البحر الأحمر وأن يقبل المستثمرون علي التواصل التجاري مع إثيوبيا. أما من جهة الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر ثانيا فلقد تم إدراك عبر الرحلات المستمرة ومع بزوغ قوي عالمية متعددة واكتشاف الثروات الطبيعية المتنوعة أن البحر الأحمر بات أحد القنوات البحرية المهمة في العالم.. وذلك لما يلي: زيادة أهميته العسكرية والاقتصادية العالمية كونه أصبح قناة وصل بين البحار المفتوحة في المحيط الأطلسي والمحيط الهندي عبر البحر المتوسط المقفول وقناة السويس, ومنه إلي باب المندب وخليج عدن فالمحيط الهندي. مجاورته لكثير من المناطق الحساسة ذات التأثير الحيوي في مصير دوله, وقربه من منابع النيل وروافده, ومناطق إنتاج النفط... تزايد المخططات التي تهدد أمن المنطقة والتي قد تؤدي لكثير من الأزمات إن لم تكن الحروب. وعليه يمكن لأي قوي متي سيطرت علي سواحله الغربية وبحسب أمين هويدي أن تندفع غربا خلال كردفان ودارفور في السودان لتصل بمناطق نفوذها علي ساحل البحر المتوسط في حركة التفاف كبري تهدد بها مراكز ثقل المنطقة, ومن ضمنها مصر, وفي الوقت نفسه تحكم سيطرتها علي السواحل الجنوبية للبحر المتوسط, وهو ما عبر عنه مانشين(وزير خارجية إيطاليا أواخر القرن ال19) بأن مفاتيح البحر المتوسط تقع في البحر الأحمر. كذلك فان أي قوة تسيطر علي سواحله الشرقية يمكنها أن تندفع شرقا إلي مناطق الخليج لتتصل بمناطق نفوذ لها في الشرق في حركة التفاف واسعة إلي بحر قزوين. في هذا السياق, يهمني الإشارة إلي أن القراءة التاريخية تقول إنه مع انطلاق الموجات الاستعمارية في القرن الخامس عشر, كانت العلاقات تتأثر بفعل تراجع التجارة من جانب, ووجود قوي خارجية تسعي للسيطرة علي البحر الأحمر تعمل علي تعطيل إقامة علاقات سوية وطبيعية بين دولها.. والغريب أن هذا الأمر كان ينسحب علي العلاقات الدينية أيضا.. ونذكر هنا واقعة زمانها القرن السادس عشر ومكانها البحر الأحمر عندما بدأت الأطماع البرتغالية في البحر الأحمر وفي إثيوبيا تحديدا نتج عن هذه الأطماع صراعات سياسية أعقبها مشكلات دينية مذهبية عنيفة وذلك بسبب صراع القوة البرتغالية الصاعدة ضد مصر انتهي بهزيمة الأسطول المصري في عهد السلطان الغوري. وفي الوقت نفسه أعلن تبعية حكام إثيوبيا إلي بابا روما.. هذا بالرغم من أن الكنيسة المصرية قد عنيت بأن تمدها دوما بكل ما تحتاجه من رعاية وتوجيهات وبعثات تعليمية وخصتها بالحق في انتخاب بابا الإسكندرية بحسب اللائحة في مادتها التاسعة, واستثنت وفد الكنيسة الإثيوبية من عرض أسماء الوفد الذي له حق الانتخاب بحسب اللائحة علي لجنة قيد الناخبين كما جاء في المادة الثامنة حيث تتلقي اللجنة آراء مندوبي الكنيسة الأثيوبية التي يدلون بها بأنفسهم وبواسطة وكلائهم الرسميين, إلا أن هذا لم يمنع أن تتأثر دوما العلاقات السياسية والدينية.. خاصة أن هذا الأمر تكرر أكثر من مرة مع اختلاف التفاصيل.. وفي هذا المقام لابد من الإشارة إلي الدراسات التي تناولت هذا الموضوع وغيره مثل تاريخ إثيوبيا لزاهر رياض, وكتابات مراد كامل ومريت غالي وعزيز سوريال عطية وأنتوني سوريال عبد السيد... وكلها تكمل ما حولنا أن نشير إليه من خلال الكتابات السياسية والإستراتيجية وما تفضل به الأستاذ يحيي غانم والسيد ديجاني تسيما في مقاليهما... صفوة القول, إن الطريق لتأكيد ما طرح في رأي الأهرام عن أبدية وحتمية العلاقات المصرية الإثيوبية والحاجة إلي تدشين مرحلة جديدة من العلاقات المتميزة.. يعني ضرورة إحياء التقليد التاريخي الذي اكتشفه الفراعنة منذ القدم أي التجارة أو إذا ما استخدمنا لغة العصر من خلال شراكة تنموية الأبعاد.. وتأمين القنوات الحيوية بيننا وبين أثيوبيا ليس فقط النيل ومنابعه, وإنما أيضا, البحر الأحمر بالمشروعات المشتركة في شتي المجالات.. والتبادل الثقافي والديني والمعرفي.