تبلغ ثروة مصر المائية سنويا نحو71 مليار متر مكعب من المياه, يشارك النيل فيها بنحو55.5 مليار متر مكعب والباقي يأتي من الصرف الزراعي بنحو7 مليارات متر مكعب. ومن الآبار والمياه الجوفية بنحو5 مليارات ثم مياه الصرف, والأمطار التي تقدم بنحو3 مليارات متر مكعب. هكذا فإن الثروة باقية كما هي لا تتغير منذ سنوات طويلة, بينما السكان تغيروا وسوف يتغيرون أكثر, فمع حلول عام2017, أي بعد7 سنوات, سوف يقفز تعدادنا لقرابة التسعين مليونا, وستكون احتياجاتنا من المياه نحو86.3 مليار متر مكعب, أي سيكون لدينا عجز بنحو16 مليارا من العطش ستدفع ضريبته أرض مصر الخضراء, بينما يضيع سنويا20 مليون متر مكعب تكفي لزراعة3 ملايين فدان! هذه الأرقام المفزعة وغيرها كانت لغة الحوار مع الدكتور نادر عبدالدايم أستاذ علوم الأراضي والمياه بكلية الزراعة جامعة القاهرة, وأحد خبراء الزراعة الحديثة. * إعادة النظر في الكيفية التي نستخدم بها مياه الري يراها البعض الطريقة المثلي للتعامل مع ملف أزمة المياه.. فلماذا الري بالتحديد؟ * الري هو المستهلك الأكبر لمواردنا من المياه, فهو يأخذ نحو80% من مواردنا المائية, فما يخرج من السد العالي للأغراض الزراعية نحو49.8 مليار للزراعة, ما يستخدم منها بالفعل نحو30 مليارا فقط, حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء, أي أن هناك نحو20 مليار متر مكعب تهدرها الزراعة سنويا من مياه النيل, وهي أرقام لها دلالات خطيرة إذا تمت مقارنتها بالمعايير الدولية المتعارف عليها, فحسب منظمة الأممالمتحدة للمياه(UNR) ومنظمة الأغذية والزراعة(FAO) فإن النسبة الدولية المتعارف عليها لاستخدام مياه الري هي32% من إجمالي الموارد المائية لأي دولة, والباقي يوزع علي الاستخدامات الأخري من صناعة واستخدام منزلي وغيرها, بل إن بعض دول أوروبا يصل استخدام الزراعة فيها لنحو30% و52% للصناعة, و18% للمنازل, تصل نسبة الاستخدام الصناعي لنحو12%, وهي نسبة ضئيلة, بينما الاستخدام المنزلي نحو8%, وهي دليل علي تدني نصيب الفرد من المياه الذي يصل إلي نحو860 مترا مكعبا سنويا, بينما حد الفقر المائي هو1000 متر, تعويض الفقر * هذا الفقر المائي هل يمكن تعويضه عبر استخدام وسائل أخري للري كالمياه الجوفية مثلا؟ * الحقيقة التي لابد أن نعرفها أن نهر النيل هو المصدر الأساسي للمياه في مصر, فإذا كان نهر النيل يقدم55 مليار متر مكعب فإن المليارات السبعة التي تحسب كمياه صرف تأتي أيضا منه, فالأرض تروي من النيل ويفيض فيذهب للمصارف, ونحسبه كمياه صرف بينما هو ماء نيل, كما أن المياه المعالجة وكل مياه الآبار والمياه الجوفية في الدلتا هي مياه نيل مخزنة في الأرض, وبحسبة بسيطة, وباعتراف التقارير العلمية الدولية, فإن97.5% من مياه مصر مصدرها نهر النيل والباقي مياه أمطار وآبار صحراوية, أما المثير أيضا فهو أن نهر النيل نفسه, الذي تهدر منه تلك المياه, يعتبر بالمقارنة بغيره من الأنهار نهرا ضعيفا في تصريفه. * إذا كان الري يهدر نحو20% من المياه, فكيف يمكن التعامل مع هذا الإهدار؟ وهل تغيير وسائل الري فقط يمكن أن يحافظ علي تلك المياه؟ وكيف يتم هذا الإهدار من الأساس؟ * بداية نحن لدينا نوعان من فاقد المياه, أولهما يتم خلال شبكة النقل والتوصيل من السد العالي وحتي الدلتا عبر مجري النيل والريحات والترع الرئيسية والفرعية والمساقي والمراوي, والنسبة الأكبر من الفاقد تحدث في تلك المرحلة ولا يمكن التحكم فيها كاملة, لكن في حدود معينة في الشبكات الأصغر, واقترحنا عدة مرات أن تكون الترع الصغيرة والمساقي من خلال مواسير أي تغطية للمياه لأن هذا سيحمي لحد كبير جدا من عمليات البخر التي تحدث, خاصة في الجنوب, لارتفاع درجات الحرارة, وكذلك حماية الترع من التلوث والسرقة المتعمدة للمياه من بعض أصحاب الاستثمارات الكبري المحظور عليهم استخدام أراضي النيل في الري, لكن هنا ظهرت مشكلة تتعلق بالتكلفة الكبيرة لتلك العملية, فتغطية الترع الكبيرة في الجنوب يتكلف الكيلومتر الواحد نحو مليوني جنيه تقريبا, وبالتالي أصبح البديل أن نبدأ من الإهدار الأقل الذي يحدث في الحقول عبر عمليات الري بالغمر, وضرورة استخدام طرق بديلة للري. الري المناسب * الري بالتنقيط والري بالرش هل يصلحان مع أراضي الدلتا التي تروي بالغمر منذ آلاف السنين؟ وماذا عن التكلفة وأنواع المحاصيل المستخدمة؟ * يجب أن نعترف بأنه بخلاف التكلفة العالية لاستخدام تلك التقنيات فهناك نحو5 آلاف جنيه للفدان, والتساؤل الملح حول من سيدفع تلك التكلفة الفلاح أم الدولة؟ بالإضافة إلي الصيانة السنوية فهناك نقطة مهمة جدا تتعلق بالأراضي نفسها, فأراضي شمال ووسط الدلتا لن نستطيع الاقتراب منها, فنسبة الملوحة في تلك الأراضي عالية جدا وإذا اعتمدنا الري بالتنقيط أو الرش فسترتفع بها الملوحة, وخلال سنوات قليلة لن تصلح للزراعة, فالمياه القليلة التي نستخدمها في الري بتلك الطرق ستساعد علي زيادة نسبة تركيز الأملاح بها, وبالتالي بوار الأرض, فهذه الأراضي تحتاج للري بالغمر, لأنه يساعد علي غسيل الأرض من الأملاح وتقليل نسبة تركيزها في التربة, خاصة لو عرفنا أن الفدان الذي يستهلك سنويا نحو6 آلاف فدان يتركز به3.5 طن من الأملاح. * وماذا عن أراضي جنوب الدلتا والصعيد؟ * هذه الأراضي يمكن فيها استخدام نوعي الري الحديث التنقيط والرش, والأفضل استخدام الطريقتين معا لأكثر من سبب, فالري بالرش مثلا لابد أن يستخدم مع محاصيل كثيفة النمو كالقمح والشعير والذرة, إنما لا يصلح مع المحاصيل التي تزرع بالخطوط, وبالتالي فمن يستخدم الري بالرش لن يتمكن من زراعة الخضراوات والحبوب, بينما يحدث العكس مع استخدام الري بالتنقيط حيث يحرم صاحبها من زراعة المحاصيل الكثيفة النمو, وهكذا, وهو أمر صعب, خاصة أن الزراعة لدينا شديدة التفتيت ومساحات صغيرة لن تكون ذات جدوي اقتصادية تحديد نوع واحد من المزروعات, كما أن هناك نحو750 ألف فدان مزروعة بأشجار الفاكهة المثمرة, والقاعدة العلمية تقول: إن الشجرة إذا تجاوز عمرها5 سنوات لا يمكن تحويلها للري بالتنقيط, حيث إن جذورها تكون قد تعمقت في التربة, وبالتالي يكون الري السطحي بالتنقيط غير صالح, لأنه لا يصلح لجذورها, وهنا لا يصلح سوي الري بالتنقيط المدفون علي عمق لا يقل عن متر, وهنا تكون التكلفة عالية وتصل لنحو15 ألف جنيه للفدان الواحد. وهذه مشكلة أخري, لكن بشكل عام فأفضل وسيلة متاحة هي استخدام الري المزدوج علي أن يكون الرش علي مستوي منخفض من التربة, ولا نفضل الرش العالي حيث تتعرض المياه للبخر ويزداد الفاقد منها, وهذا النظام يوفر في الإهدار ويتيح زراعة المحاصيل التي تكون في أحواض طولية والكثيفة أيضا حسب رغبة الفلاح. * برغم ما يقال عن أفضلية الطرق الحديثة للري فإن قبولها من الفلاح ليس كبيرا, وربما لم يحقق النجاح المرجو, ومازلنا نعتمد الطرق القديمة برغم ما تسببه من إهدار.. فلماذا يحدث هذا؟ * هذا حقيقي إلي حد كبير, والسبب أن كثيرا من التجارب التي تمت لم تتم بشكل علمي, ومثال ذلك ما حدث في توشكي مثلا حيث يعتمد المستثمرون طريقة الري بالرش أو حتي التنقيط السطحي, وهي طرق غير اقتصادية تماما, فالرش ونتيجة للارتفاع الشديد في درجة الحرارة يعرض الماء للبخر السريع قبل أن يصل للأرض, ومواسير التنقيط يقصر جدا عمرها الافتراضي وتتشقق سريعا لنفس السبب وتزيد التكلفة, سواء من المياه أو الخامات المستخدمة, فكلاهما من أدوات الإنتاج, وكان الأفضل استخدام رش منخفض أو مواسير ري مدفونة تحت الأرض وبالتالي المفترض أن تتم تلك العملية عبر دعم مباشر من الدولة, وأنا أعرف أن الفاو ومنظمة الأممالمتحدة للمياه تضع ميزانية تتعدي المليار دولار لدعم طرق الري الحديثة, فلماذا لا تتولي الدولة هذه المسألة عبر أخذ منح وتقديمها للفلاح لا كقروض عالية الفائدة كما يحدث الآن, ولكن عبر برامج منح كاملة لأن تقدم الفلاح ووفرة المياه يصب في النهاية في مصلحة الدولة ككل.