في الأول من فبراير عام1979 أقلعت طائرة الخطوط الجوية الفرنسية مقلة الإمام الخوميني من مقر إقامته في نوفيل دو شاتو إحدي ضواحي العاصمة باريس بعد إقامة قصيرة استمرت أربعة أشهر. - حيث حطت به في طهران في اليوم نفسه, لكي يؤذن ذلك بنهاية العصر الإمبراطوري في إيران وبداية عصر حكم ولاية الفقيه. وفي27 يونيو الماضي, أقيم في ضاحية تافريني علي بعد40 كلم من باريس التجمع العالمي للتضامن مع الشعب الإيراني واللاجئين الإيرانيين في معسكر أشرف بالعراق برئاسة مريم رجوي رئيس ما يسمي بالمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية( وهو المنصب الذي يعادل منصب رئيس الجمهورية) وذلك بهدف إقصاء نظام حكم ولاية الفقيه. ما بين الحدثين الأول والثاني ثلاثة عقود, إلا أن المتأمل لهما سيلحظ علي الفور قواسم مشتركة; فالطرفان الأساسيان هما معارضة إيرانية, الأولي كانت تحمل أيديولوجية دينية نجحت في حكم البلاد, في حين أن الثانية تتلحف بأيدلوجية قومية علمانية. القاسم المشترك الثاني يتمثل في كون المعارضتين اتخذتا من فرنسا في مرحلة ما موئلا لها. أما القاسم المشترك الثالث, فيتمثل في أن المعارضتين تعرضتا في أوقات طويلة لرفض من جانب الغرب وصل لدرجة أن فرنسا لم تسمح للراحل الخوميني أن يدخل أراضيها إلا بتأشيرة سياحية, ولمدة أربعة أشهر فقط قبل ان يرحل إلي بلاده فاتحا, في حين أن منظمة مجاهدي خلق وضعت لسنوات علي قائمة المنظمات الإرهابية في الاتحاد الأوروبي, وذلك قبل أن ترفع منذ شهور- وإن كانت مازالت علي هذه القائمة في بعض الدول الأعضاء- ناهيك وهو الأهم كونها مازالت علي هذه القائمة السوداء بالولاياتالمتحدة! في الطريق إلي الاستاد الرياضي لضاحية تافريني بإقليم فال دي مارون حاولت جاهدا إحصاء الحافلات الضخمة التي كانت تحمل آلافا من الحضور للاحتفال, إلا إنني لم أنجح سوي في قراءة عبارات كتبت علي الحافلات, والتي كان أهمها شعار:' من أجل حرية وديمقراطية لشعب إيران وللاجئي معسكر أشرف بالعراق', بالإضافة إلي تأمل الملامح الفارسية الجميلة للسيدة مريم رجوي. ولعل سبب الفشل في إحصاء الحافلات هو تأكيد مسئولي منظمة مجاهدي خلق أن عدد الحضور تجاوز ال80 ألفا جاءوا من قارات الدنيا الخمس, وعلي رأسهم قيادات المنظمة الذين يعيشون في المنافي, وإن كنت أشك في الرقم, خاصة أن أعدادا كبيرة منهم في الصفوف الخلفية بدوا لي أقرب للملامح الأوروبية! دخلت الاستاد وسط صفين من الشابات اللاتي حملن أعلام23 دولة, تقول المنظمة إن أعضاء برلماناتها وحكومات بعضها تدعمها, ومن بين هذه الدول:( فرنساالولاياتالمتحدة إيطاليا الأردن هولنداكنداإنجلتراالمانيا الدنمارك النرويج أسبانيا أيرلندا سويسرا استراليا). ومن بين مئات برلمانيي هذه الدول, حضر الحفل500 برلماني وعلي رأسهم نائب رئيس البرلمان الأوروبي الإسباني الجنسية الدكتور فيدل كوادرس, وهو في الوقت ذاته, رئيس لجنة البحث عن العدالة التي شاركت في رعاية الحدث ذاته, وذلك في تظاهرة سياسية غير مسبوقة بالفعل; فيكفي أنني أول مرة ألتقي مواطنين من دولة أيسلندا, ناهيك عن برلمانيين منها, كان خلال هذا الحدث! افتتح الاحتفال بغناء باللغة الفارسية, ثم أغنية عربية, ثم بدأ رسميا بالسلام الوطني الفرنسي( المارسيلييز), وذلك قبل أن تتوالي كلمات كبار الضيوف المشاركين, والتي حملت الكثير من المؤشرات علي مواقف جديدة, وأخري وشيكة من جانب حكومات دولهم تنبئ بمنهج جديد في مقارعة النظام الإيراني! ولنتأمل سويا بعضا مما جاء في كلمة السيناتور الأمريكي المعروف توم تانكريدو, الذي أعلن تضامنه وتضامن العديد من أعضاء الكونجرس الامريكي بمجلسيه مع الشعب الإيراني والمعارضة واللاجئين الإيرانيين في معسكر أشرف بالعراق, ومعظمهم من أنصار مجاهدي خلق في إشارة للحصار الذي تفرضه السلطات العراقية للمعسكر بدفع من النظام الإيراني قائلا:'... أنا أعتبر نفسي أشرفي الهوي...!'. وإذا كانت كلمات السيناتور تانكريدو تعكس ضمن ما تعكس سيكولوجية أعضاء الكونجرس الذين تميل للإنحياز لما تراه توجهات شعبية ديمقراطية, فإن رومانسية اللغة التي استخدمها الرجل, كان لابد أن تكتمل بخشونة كلمات جون بولتون السفير السابق للولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي, والذي اشتهر في واشنطن بأنه أحد أكثر الصقور تشددا في الإدارة الجمهورية السابقة, وأحد الذين دافعوا بقوة عن غزو كل من افغانستان والعراق! بدأ بولتون بالتأكيد علي أن الملايين من الأمريكيين يؤمنون بأنه علي إدارة الرئيس أوباما العمل لتغيير النظام الإيراني, معربا في الوقت ذاته عن خيبة أمله إزاء رد الفعل الضعيف للإدارة الحالية علي القمع الذي شهدته إيران عقب الانتخابات الأخيرة. وأشار الرجل إلي أن الأحداث الأخيرة أثبتت فشل سياسة' اليد الممدودة' للنظام الإيراني, وحث حكومة بلاده علي تغيير موقفها' المتخاذل', مشيرا في الوقت ذاته إلي ضرورة تحملها مسئولية تأمين حياة اللاجئين الإيرانيين في معسكر أشرف بالعراق, والذي سلمته للحكومة العراقية لتعرض بذلك حياتهم للخطر. وقال بولتون إن العقوبات التي فرضت علي إيران مؤخرا لن تؤدي إلي التغيير المنشود, وذلك في إشارة ضمنية محتملة إلي ضرورة اللجوء لخيارات تميل لاستخدام القوة! وإذا كانت تلك هي الرسائل الظاهرة المؤكدة, والأخري المخفية المحتملة التي حملتها كلمات كل من السيناتور وأحد أبرز الصقور في الإدارة السابقة, فإنه بتحليل مضمون ذلك المقطع من كلمة السيدة مريم رجوي رئيسة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية, فإننا يمكن أن نرصد مزيدا من الرسائل المتداخلة في نفس الاتجاه! تقول السيدة رجوي:' لقد كان القرار الصادر مؤخرا عن مجلس الأمن بفرض عقوبات علي النظام الإيراني ضروريا, وإن لم يكن كافيا, ولكن المهم هو تطبيقه حرفيا, كما أننا نطالب بوقف شراء البترول والغاز الإيراني فورا والذي تنفق عائداته ضد الشعب ومصالحه!'. الثقة التي كانت تتكلم بها رجوي والثبات الذي بدا عليها, لم يتناسب فقط مع ضخامة الحضور ونوعيته, وإنما تناسبت أيضا مع الموكب الذي وصلت فيه إلي موقع الاحتفال والذي كان أقرب إلي مواكب القادة من زعماء الدول, حيث كان في استقبالها عدد من عمد المدن الفرنسية, وعلي رأسهم عمدة مدينة تافريني. كل هذه الرسائل المتداخلة التي حملتها كلمات الاحتفال, من أن العقوبات الأخيرة المفروضة علي إيران ليست كافية, دفعتني لأن أمطر السيد محمد محدثين رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية( وزير الخارجية), بأسئلة عن إمكانية تفسير هذه الرسائل ضمنيا كدعوة لاستخدام القوة؟ وضمانات عدم إساءة الغرب فهم هذا الخطاب, واستخدام القوة بالفعل؟ وهل يريدون في المعارضة أن ينتهوا إلي ما انتهت إليه المعارضة العراقية التي تعاني رفضا شعبيا؟ استشعرت انزعاجا من السيد محدثين إزاء هذه القراءة في تلك الكلمات, حيث بادر بالقول:' منذ غزو العراق في عام2003 ترفض مريم رجوي خيار القوة, كما تؤمن بالتغيير السلمي الديمقراطي, وبالتالي, فإننا ضد أي ضربة عسكرية أجنبية ليس فقط ضد الشعب, ولكن ضد النظام'. ويستطرد محدثين قائلا:' علي الجانب الآخر, فنحن ندعو إلي عقوبات اقتصادية شاملة علي غرار التي فرضت علي نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا الذي قام علي أساس العرق, في حين أن النظام الحالي في إيران يمارس فصلا عنصريا علي أساس الدين والمذهب بإيران, وفي تقديرنا, فإن الشعب لن يتضرر بشكل كبير من هذه العقوبات, حيث إن معظم العوائد تذهب إلي الحرس الثوري ولرموز النظام والمستفيدون منه'. الكلام أثار العديد من التساؤلات بشأن واقعية الرجل بشأن إمكانية نهوضهم بمهمة التغيير التي يتحدثون عنها, خاصة أن تجربة التغيير باستخدام العقوبات مع النظام العراقي السابق فشلت فشلا ذريعا بالرغم من الضعف الشديد للنظام بسبب الحصار الذي فرض عليه مدة13 عاما, وانتهي الحال باستخدام القوة العسكرية لإسقاطه!. السيد محدثين أكد لي ما سمعته من مسئولي منظمة خلق من أن نظام طهران أعدم120 ألفا من خيرة شباب الأمة الإيرانية في السجون منذ قيام الثورة, وهو ما لم يقدم عليه نظام منذ سقوط النازية في نهاية الحرب العالمية الثانية, كما أنه أعدم500 خلال العام الماضي منذ الانتفاضة التي أعقبت الانتخابات الأخيرة, ومن أنه طبقا لأرقام الحكومة ذاتها, فإن80% من الشعب يعيش تحت خط الفقر, ناهيك عن المعدلات المتصاعدة للبطالة والفساد, وهو ما لا يستقيم مع دولة شديدة الثراء بتروليا وغازيا. كل هذه المعلومات قد تصح في أغلب الأحوال, ولكن هذا كله شيء, وواقعية التغيير بالطريقة التي يفسر بها مسئولو المعارضة كلمات ودعوات قادتهم شئ آخر! وفي ظننا, أن الغرب قرر في هذه المرحلة أن يكثف من استخدام المعارضة سياسيا ونفسيا لمزيد من الضغوط علي النظام الإيراني كي يعدل من مواقفه. أما التغيير, فإنه يتطلب أكثر بكثير من الدعم السياسي والمالي واللوجستي لكي نري السيدة والسيد مريم ومسعود رجوي يستقلان طائرة للخطوط الجوية الفرنسية لتحط بهما في مطار طهران في إعادة لنفس المشهد الذي حدث منذ31 عاما مع الإمام الخوميني...