في تحرك مصري يتسم بكثير من النضج السياسي والحكمة البالغة, بل الحس التاريخي, زار وفد دبلوماسي ضم أحمد أبوالغيط وزير الخارجية وفايزة أبوالنجا وزيرة التعاون الدولي العاصمة الإثيوبية أديس أبابا أمس الأول, في أول لقاء بين مصر وإثيوبيا, بعد توقيع أغلب دول المنبع اتفاقية منفردة في26 و27 يوليو الماضي في عنتيبي بأوغندا. تلك الاتفاقية التي وصفتها إثيوبيا والدول الموقعة الخمس بأنها مسار جديد أو مسار عنتيبي لتنظيم إدارة المياه, وأعلنت رغبتها في جذب باقي دول المنبع التي لم توقعها حتي الآن, وهي بوروندي والكونجو, بينما رفضتها دولتا المصب مصر والسودان. المسار الذي أقرته تلك الدول يهدف إلي تبني دول المنابع وجهة نظر جديدة مختلفة عما تم الاتفاق عليه عند إقرار المبادرة, وهي ضرورة التوافق ليصبح إقرار القرارات وفقا لصيغة مختلفة عرفت باسم7 2, وهو الوضع الذي يجعل دور دولتي المصب مصر والسودان في اتخاذ أي قرارات داخل مبادرة النيل غير مؤثر علي الإطلاق أو يكاد يسبغ علي دولتي المصب صفة المراقب أكثر منها العضوية الكاملة. وقد عكست زيارة الوفد المصري إلي إثيوبيا إشارة بأن مصر تريد أولا: المكاشفة بأن تعرف أكثر حول كيفية التعامل في مستقبل الأيام مع مبادرة حوض النيل. كما أن الزيارة أرادت أيضا ثانيا: تأكيد أن التعاون بين دول حوض النيل هو سياسة واستراتيجية ثابتة لمصر, سوف تستمر فيها سواء باستمرارية المبادرة أو تجميدها أو حتي إلغائها. فما يجمع بين بلدان النيل ومصر وإثيوبيا لا تفرقه اختلافات في وجهات النظر أو حتي تباينات حادة في الرؤي حول المستقبل, وحول أهمية تحقيق مصالح الجميع مع حفظ حقوق كل دول النيل, فقد أثبتت الأيام أن التعاون وتحقيق المصالح يجب أن يستمر لحفظ حقوق الشعوب المعاصرة حتي ولو اختلف السياسيون اليوم, لأنهم لا يعرفون علي وجه الدقة ما تقوله الأجيال المستقبلية حول طرق وأساليب التعاون والعمل معا, فالدنيا تتغير والرؤي تتباين والعصور لا تتشابه. فموضوع النيل شائك وتعقيداته وتبايناته ليس من السهل كشفها أو تبيانها, والجميع خائفون. فدول المنابع لديها هاجس التغيرات المناخية والبيئية, وما يحمله قادم الأيام, ودولتا المصب مصر والسودان لهما كامل الحق في التحفظ علي أي اتفاقيات جديدة لا تراعي حقوقهما التاريخية والثابتة علي مر العصور منذ بدء الخليقة وحتي الآن. وقد حاولت دول المنابع أن تتملص دائما من كلمة الحقوق التاريخية حتي ولو اخترعت لنا كلمة بديلة وهي الحق الإلهي. ميليس زيناوي زعيم إثيوبيا الحاضر تحدث طويلا أمام الوفد المصري عن أن أي هبة إلهية لا يستطيع أن يمنعها أحد.. وهذا صحيح إلي حد كبير, ولكن هذه الهبة لا تتعارض مع حفظها للحقوق التاريخية والقانونية وتثبيتها عبر اتفاقيات قانونية ثنائية ودولية حتي تظل ثابتة وموثقة للأجيال الحالية والمستقبلية منعا للمنازعات والصراعات بل الحروب لاقدر الله. فحفظ الحقوق الراهنة والمستقبلية إذا كانت الجغرافيا تحميه فلا مانع من إقراره عبر تاريخ طويل من الاتفاقيات الدولية السابقة عليه. فما حفظته أجيال سابقة وعهود حكام طويلة لا يمكن أن يصادره حكام اليوم بحجج كثيرة ولأسباب قد تكون معروفة, فالمواثيق والعهود والقوانين هي سمة عصرنا, وعلينا الحفاظ عليها وتثبيتها عبر معاهدات نحترمها جميعا. ............................................................... زيارة الوفد الدبلوماسي المصري مهمة, وكانت لي فرصة مصاحبة الوفد عن قرب بدعوة كريمة من وزير الخارجية, حيث استمعنا إلي الوزيرين أحمد أبوالغيط وفايزة أبوالنجا أنا وزميلي عبدالله كمال رئيس تحرير روز اليوسف بعد انتهاء اللقاءين السياسيين اللذين جمعاهما مع ميليس زيناوي رئيس الوزراء وسيوم ميسفين وزير الخارجية. الوزيران اتسما بالحرص والدقة في تصريحاتهما مثلما التزمت مصر بذلك منذ أن تفجرت الأزمة عقب التوقيعات علي الاتفاقية المنفردة. حيث اتفق الوزيران علي استقبال إثيوبيا الوفد المصري بالترحيب والتقدير, وقال رئيس الوزراء زيناوي: هكذا دائما سياسة مصر تتصرف بالحكمة عندما تواجه حالة ملحة مثل التي تواجهها الآن.. ولم يسمها أزمة, وهو الخلاف والتوقيع علي عنتيبي دون مصر والسودان, وقال: إن هناك مفاهيم خاطئة لدينا ولديكم( مصر وإثيوبيا). نقول في إثيوبيا إننا نملك المياه مع أننا فقراء, وعندكم أي عمل في النهر سوف يؤثر عليكم, نحن نعرف جميعا أنه لا توجد قوة والكلام لزيناوي علي لسان أبوالغيط تستطيع أن تحجب مياه النيل عن مصر, هذا بقوة الطبيعة, ولكننا في إثيوبيا نشعر بضيق لعدم استفادتنا من النهر مثلكم. الوزيران شرحا أن فلسفة مبادرة حوض النيل هي التنمية الشاملة وليست فقط ذراعا للمياه, ولكنها تمتد إلي الكهرباء والسياحة والمزارع السمكية, وكل ما يؤدي إلي التنمية المتوازنة في المجتمعات. المباحثات المصرية الإثيوبية لم تفشل ولكنني من جانبي لا أستطيع أن أعتبرها خطوة إلي الإمام تجاه تفعيل مبادرة حوض النيل, ولكنها استطاعت محاصرة الخلافات بين وجهتي النظر, فلقد كان توقيت الزيارة مناسبا للغاية لإعادة العمل معا, خاصة في العلاقات الثنائية, فهناك مستثمرون مصريون واستثمارات مصرية تربو علي مليار دولار, والتجارة تنمو وتتزايد بين البلدين, وهناك فتح لمجالات استيراد اللحوم الحية والمذبوحة, وصناديق جديدة للاستثمار في إثيوبيا, فلأول مرة تنشيء بنوك الأهلي ومصر والقاهرة صندوقا بمليار دولار, دفع منها150 مليون دولار لإنشاء مشروعات مصرية إثيوبية مشتركة في خمسة مجالات( الثروة الحيوانية والزراعية والغذاء والتشييد والبناء والصناعات الكيماوية والصحة والدواء والأمصال البيطرية وتدريب في كل المجالات). الحركة بدأت بين البلدين بزخم كبير, ولا يمكن أن تتوقف مصالحنا مع إثيوبيا, وعلاقاتنا بها يجب أن تكون قوية وحميمية ولا تقوم بها الحكومة وحدها, ولكن الدولة المصرية بكل قدرتها وزخمها ومجتمعها العام والأهلي والخاص, حتي الشعب يجب أن تشارك وتتفاعل مع هذا الاتجاه, لأن مصر وإثيوبيا والسودان أو ما نطلق عليه الحوض الشرقي تمثل أكثر من85% من موارد النيل الخالد وعلاقاتنا بالشعوب الإثيوبية يجب أن تسبق علاقاتنا حتي بمؤسسات الحكم. ويجب أن يعرف الإثيوبيون باختلاف أعراقهم أنهم منا ونحن منهم, ولنا فيهم نسب ومحبة, وأن مصالحهم السياسية والاقتصادية ونمو بلدهم واستقراره وازدهاره ونهضته عملية مهمة للسياسة المصرية, فالعرقيات الإثيوبية الثلاث( الأورمو54% والأمهرة25% والتيجراي8%) لنا بها ارتباطات تاريخية ومحبة مثل أهل السودان شمالا وجنوبا وغربا ووسطا. لعلي اتفق تماما مع ما قالته الوزيرة فايزة أبوالنجا إن ما حدث أخيرا ربما يكون بمثابة ضارة نافعة لنا في مصر, لأن الاهتمام بإفريقيا يجب أن يأخذ منحي ليس حكوميا فحسب, ولكن شعبيا أيضا, بأن يحرص المصريون علي استهلاك المنتجات الإفريقية وعلي الوجود في السودان وإثيوبيا وأن تكون هناك علاقات تجارية واقتصادية وسياسية مستمرة واتصالات بالنقل البحري والنهري والجوي والبري. الربط بين مصر والبلدان الإفريقية يجب أن يكون سياسة الشعب والمجتمع ورجال أعماله ومؤسساته مثل الحكومة, لكسر أي حاجز نفسي أو تباعد تقوده جماعات أو مصالح ضيقة لا تملك رؤية المصالح الحقيقية للشعوب الآن أو مستقبلا. الإثيوبيون والسودانيون هما أكثر الشعوب قربا لنا فحضارتنا القديمة ارتبطت بتلك المنطقة, ونهضتنا حدثت معهم وعبرهم, والتاريخ يؤكد أنه مثلما تدفقت روافد النيل من الهضبة الاثيوبية مندفعة إلي الشمال حتي دلتا مصر, تدفقت التجارة والمعرفة والحضارة بين مصر واثيوبيا عبر إريتريا( البحر الأحمر) وعبر السودان. نعود لنقطة البدء.. الاتفاق بشكله الحالي لا يحقق لمصر والسودان مصالحهما المائية, والخلاف الحالي خلاف نظري له طبيعة قانونية.. والاتفاق علي مهلة من الوقت لبحث حله, والتوصل إلي صيغة مقبولة لكل الأطراف حول المواد الخلافية في الاتفاق الإطاري يجب ألا يؤثر علي مستقبل التعاون الفعلي بين دول حوض النيل, وبالأخص مشروعات حوض النيل الشرقي, أخذا في الحسبان أن هذه المشروعات لا يمكن الاستفادة بها إلا من خلال التوافق بين الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا.. وهناك بالقطع قواسم مشتركة يجب البناء عليها من أهمها: استقطاب الفواقد المائية العديدة, ومنها علي سبيل المثال منطقة نهري بارو وأكوبو, والتي يمكن أن توفر من8 إلي10 مليارات متر مكعب ويمكن لمصر المساهمة في ذلك, وحشد الدعم المالي بما يحقق لإثيوبيا أمنها المائي المنشود, والذي تحرص عليه مصر. * إن أغلب المشروعات التي تسعي إثيوبيا لتنفيذها هي في الواقع مشروعات لتوليد الكهرباء, وتحرص مصر علي المساعدة في تنفيذها لتحقيق الفائدة المشتركة للدولتين. * إذا كانت دول المنابع تسعي كما سبق وأن أعلنت بما فيها إثيوبيا إلي عدم الإضرار بالمصالح المصرية, فإن ما نحتاجه في الواقع هو ضمانات بعدم المساس باستخداماتنا المائية. ............................................................... إن الموقف المصري يتسم بالخلق والمباديء الرفيعة, فهو لا يهدف بأي حال من الأحوال إلي الإضرار أو الانتقاص من حقوق أي دولة من دول حوض النيل في مياه هذا النهر العظيم, أو الوقوف أمام عجلة التنمية في هذه الدول, مادام ذلك لايمس استخدامات مصر المائية. * ضرورة أن يركز التفاوض المستقبلي علي المسائل الخلافية في الاتفاق الإطاري خاصة أن اللجنة التفاوضية لمبادرة حوض النيل أثبتت عدم قدرتها علي القيام بذلك, علي أن يتم في إطار جدول زمني محدد بمعرفة لجنة تتشكل من بعض دول الحوض. وإذا كان لنا أن نرد علي بعض المفاهيم المغلوطة التي يروج لها الإعلام في بعض دول المنابع بأن مصر تعرقل جهود التنمية في تلك الدول, وأنها تمارس حق النقض إزاء المشروعات, فإننا نقول: إنه ادعاء عار عن الصحة, فطوال السنوات العشر الماضية, ومنذ إعلان المبادرة والتفاوض حولها, تصب المشروعات في مصلحة دول المنابع, وكل مشروع قام هناك حصل علي دعم وترحيب مصري. .. وما الخلافات الراهنة إلا خلافات نظرية, فما تسعي إليه مصر وتحرص عليه هو تنفيذ المباديء التي يقوم عليها التعاون تحت مظلة مبادرة حوض النيل, باعتبارها مباديء راسخة في القانون الدولي, ويتم تطبيقها في كافة أحواض الأنهار الأخري في العالم, مع تأكيد مصر لإثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وباقي دول الحوض الحرص التام علي وحدة حوض النيل وتحقيق التنمية لجميع شعوب المنطقة, وهذا يستلزم حل مشكلات الخلاف الراهن بما يسمح بالتركيز علي تحقيق الأهداف الإنمائية لدول الحوض. مازالت هناك تساؤلات عديدة حول شكل التعاون وتطوراته في المستقبل بين دول المنابع ودول المصب, فالخلافات حول الاتفاقيات لم تحسم.. واتفاقيتا عام1929 وعام1959 مازالتا ساريتين ولا يمكن إغفالهما, وإذا كانت إثيوبيا تضع اتفاقية2010 لدول المنبع في ميزان هذه الاتفاقيات, أو تعتبرها اتفاقية تصحيحية جاءت بعد51 عاما, وتريد إثيوبيا أن تقول: إن هذه الاتفاقيات لا تؤثر عليها, ولكن تؤثر علي أوغندا وكينيا وتنزانيا, فإن هذا يزرع شقاقا داخل حدود النيل, ولا يؤدي إلي التعاون.. والنهر مازال غنيا والفواقد فيه أكثر من كل احتياجات بلدان النيل. كما أن الاتفاقيات التي تحكمه ليست الاتفاقيات السابقة فقط, ولكن يمكن مراجعة اتفاقية1902 مع إثيوبيا واتفاقية1929 مع دول الحوض واتفاقية1949 واتفاقية1991 مع أوغندا.. وإذا كنا نركز علي العلاقات الأزلية وضرورة التفاوض, فإن هذا لا يعني إسقاط الحقوق التاريخية, فهذا ليس حق الجيل الحالي وحده, لكنه حق الأجيال القادمة, وحفظ الحقوق لا يعني تجاهل الموارد القادمة والاستثمارات وتنمية التعاون, فالنيل لم يكشف عن قدراته بعد لنا ولأشقائنا الأفارقة, ولا يمكن أن نتفرغ لخلق التناقضات والصراعات, دون النظر بعمق إلي كيفية تقليل الفواقد عبر التعاون بحسن نية وباحترام حقوق الجميع, إلا إذا كانت هناك أهداف أخري لا نعلمها ومازال الغموض يكتنفها. [email protected]' المزيد من مقالات أسامه سرايا