سألت صديقا في واشنطن: ما الذي يشغل إدارة أوباما اليوم؟ وجاءت الإجابة مفاجئة للغاية, فلم تكن حول صواريخ روسيا النووية, أو التوسع الكوني للدولة الصينية, أو صعوبات ومعضلات الخروج الأمريكي من أفغانستان أو العراق. أو حتي أزمة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية التي لا حل لها منذ ستة عقود وأكثر, وإنما كان الرد مختصرا ومباشرا: إنها مسألة تسرب البترول في خليج المكسيك. ولم يأت المساء إلا وكان باراك أوباما رئيس الولاياتالمتحدة يلقي خطابا تليفزيونيا إلي الشعب الأمريكي يقول فيه إن هناك هجوما علي الشواطئ الأمريكية بلغ ملايين البراميل من النفط التي تدفقت من منابعها داخل المياه الدولية والتي تديرها شركة البترول البريطانية واختصارها بي بي أوBP منذ شهر إبريل الماضي, وبدأت في الوصول إلي الشواطئ الأمريكية في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية والاقتصادية علي مجموعة من الولايات التي لم تشف بعد من المصائب السابقة لإعصار كاترينا الذي لم تمض عليه إلا سنوات معدودة. وبالمصادفة البحتة فقد كنت في الولاياتالمتحدة للبحث والتدريس خلال ذلك الوقت من صيف عام2005 عندما جاء الإعصار الرهيب لكي يدمر مدنا بأكملها, ويحول حياة ملايين من البشر من الدعة والطمأنينة إلي حياة اللاجئين في المدارس ومعسكرات الإيواء وانتظار المنح والمعونات. وكم كان المشهد في ذلك الوقت رهيبا عندما غمرت المياه كالطوفان مدينة نيو أورليانز الشهيرة بعد أن دمرت سدودها وقناطرها وخرج الناس منها فارين كما لو أن التاريخ يعيد قصة النبي نوح مرة أخري مع مطلع القرن الحادي والعشرين. أما هذه المرة, فأنا في زيارة للولايات المتحدة في أمور تخص شركة الأهرام الدولية في أمريكا الشمالية, ولكن السياسة الأمريكية فرضت نفسها كما هي العادة عند كل لقاء أو مقابلة أو حتي وقت غداء أو عشاء, وبعد أيام قليلة من الزيارة ظهر أن ما شاهدته يوم وصولي لم يكن سوي قشرة رقيقة تخفي الكثير وراءها. وما حدث يوم الوصول كان أن العاصمة الأمريكية خرجت عن بكرة أبيها لمشاهدة المباراة الأولي للمنتخب الأمريكي في كأس العالم مع المنتخب البريطاني, فظهرت شاشات ضخمة تم نصبها في الميادين العامة, وأخري لا تقل ضخامة, وضعتها الفنادق والحانات ومجمعات التسوق الهائلة لكي تجتذب مشاهدين قرروا خوض معركة ربما لم يحدث مثيل لها منذ حرب الاستقلال الأمريكية في عام1776, أو ربما منذ حرب عام1812 التي قامت فيها القوات البريطانية والأسطول البريطاني بحرق واشنطن كلها. كان الأمريكيون متحمسين في مباراة لكرة القدم التي لا تأتي ضمن أنواع الرياضات المفضلة في الولاياتالمتحدة, فالأمريكيون يهيمون بلعبة البيسبول وكرة السلة ونوعية خاصة من كرة القدم هي تطوير عنيف للعبة الرجبي البريطانية, ولكن يبدو أن حمي الكرة وصلت أخيرا إلي أمريكا, أو أن الخصم هذا اليوم كان جديرا بهذه الدرجة من الحماس. فسرعان ما ظهر أن المسألة كانت أكبر من مباراة في كرة القدم, لكن كان وراءها الدولة الأمريكية في مواجهة الشركة البريطانية, حينما بدأت الحقائق تتكشف عن تهديد بالغ, وخطر حال, علي الأمن القومي الأمريكي لم يأت من دول معادية تقوم بالهجوم والغزو, وإنما جاء نتيجة أنواع جديدة من التهديد والأذي أصبحت تضع الدولة الأمريكية المعاصرة تحت تهديد بالغ. وربما يتضح الأمر لو عدنا بالذاكرة إلي ذلك الفيلم الأمريكي الشهير العدو علي البابTheEnemyOntheGate الذي صور الجيش الألماني وهو يقف علي أبواب ستالينجراد السوفيتية كما كانت معروفة في ذلك الوقت من أيام الحرب العالمية الثانية, بينما يقوم الجيش والشعب السوفيتي بالدفاع عنها حتي تم النصر وهزيمة العدو. وكانت تلك هي الصورة الكلاسيكية والنقية للتهديد الذي يأتي من الخارج ومن قبل دولة وجيش متفوق يحاول بكل العنف فرض السيطرة والهيمنة المسلحة بينما تحاول الدولة الدفاع عن نفسها وصد الهجمات بالقدرة والشجاعة. ولكن المسألة هذه المرة اختلفت, وسواء كان الأمر أثناء إعصار كاترينا أو تسرب ما يقرب من60 ألف برميل بترول يوميا من بئر معطوب منذ شهر إبريل الماضي فإن الكارثة لم تكن أقل عنفا. وربما كان الفارق هو أنه في الحروب التقليدية, والتهديدات المعروفة للأمن القومي, فإن وسائل المخابرات, وأساليب الدفاع والمواجهة, لها تراث طويل في الفكر الاستراتيجي, وهناك مؤسسات لديها من الإمكانيات والقدرات ما يجعلها تستطيع صد الهجوم, أو لتعبئة الشعب من أجل ردعه وهزيمته. ولكن الأعداء الجدد يختلفون كثيرا عما اعتادت عليه الدول, وسواء كانت ثورات الطبيعة من الأمور الطبيعية في التاريخ أو أن هناك عوامل جديدة مثل الاحتباس الحراري باتت تجعل الطبيعة غاضبة أكثر مما اعتادت, أو أن الكارثة جاءت من خطأ إنساني جسيم كما حدث مع شركة البترول البريطانية, فإن الدولة الأمريكية لم تكن جاهزة علي الإطلاق ولا أدري عما إذا كانت دول العالم الأخري علي درجة كافية من الاستعداد للتعامل مع هذه المواقف أم لا. وليس سرا علي أحد أن هزيمة جورج بوش وحزبه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية كانت وراءها ثلاثة أنواع من الفشل: الأول هو العجز عن التعامل مع الحرب في أفغانستان والعراق, والثاني كارثة كاترينا التي فشلت الإدارة الأمريكية في التعامل معها, حين اجتاح إعصار كاترينا, بقوته التي بلغت الدرجة الخامسة, في أغسطس2005 ثلاث ولايات في جنوبالولاياتالمتحدة هي لويزيانا ومسيسبي وألاباما, مدمرا منطقة تبلغ مساحتها نحو235 ألف كم مربع, أي ما يوازي نصف مساحة فرنسا أو مساحة رومانيا بأكملها. وقد قدرت الخسائر الناجمة عن الإعصار بنحو ثلاثمائة مليار دولار, وهو ما يوازي وفقا لبعض التقديرات ما تم إنفاقه خلال السنوات(2001-2005) علي حربي الولاياتالمتحدةالأمريكية في أفغانستان والعراق. كما أدي الإعصار إلي إغلاق711 بئرا نفطية في خليج المكسيك, فتوقف92% من إنتاج النفط و83% من إنتاج الغاز الطبيعي. وهو ما أدي لارتفاع سعر جالون البنزين لأكثر من3 دولارات, وهو معدل لم يحدث من قبل. ولمن لا يعلم فإن منطقة الساحل الأمريكي لخليج المكسيك وبصفة خاصة الشريط الممتد من مدينة موبيل المجاورة لنيو أورليانز( لويزيانا) إلي ميناء بورت أرثر القريب من هيوستن( تكساس) أكبر تجمع عالمي لصناعة التكرير وواحدة من أضخم شبكات الأنابيب. ولو أن خليج المكسيك دولة مستقلة مجازا, لاحتل المرتبة ال29 ضمن أكبر اقتصاديات العالم, حيث يسهم كل من قطاعات النفط والسياحة والصيد والسفن في هذا الخليج بنحو234 مليار دولار سنويا, ويبلغ نصيب الولاياتالمتحدة منه الثلثين والباقي للمكسيك. فعلي سبيل المثال, يسهم قطاع النفط والغاز ب53% من اقتصاد المنطقة وكذلك يسهم قطاع السياحة بما يقرب من46% من اقتصاد المنطقة, بما يفوق100 مليار دولار سنويا. والثالث هو الفشل في التعامل مع الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت أمريكا وبقية دول العالم. والآن, ومع باراك أوباما, فإن الأسباب تبدو كافية للمقارنة: فمشكلة العراق وأفغانستان لا تزال باقية كاللعنة الأبدية, والأزمة الاقتصادية رغم شواهد العبور منها, إلا أن الأمر كما يقال في مصر لم يصل إلي الإنسان العادي بعد, وعندما لا تصل نتائج الخروج من أزمة اقتصادية إلي الإنسان العادي, فمعني ذلك أن الأزمة لاتزال باقية, ولسعتها أعنف بحكم طول الزمن والانتظار الذي طال. ولم يكن أوباما يحتاج حتي تكتمل المقارنة إلي كارثته الخاصة, التي لم تأت فقط عندما لم تنجح شركة البترول البريطانية في إتمام حفر بئر بحرية يوم العشرين من إبريل الماضي, ولكن عندما عجزت أيضا عن سد الفجوة الناتجة عن الحفر, فكانت النتائج الإنسانية والاقتصادية مروعة, فمع الانفجارات التي حدثت في موقع البئر الفاشلة قتل أكثر من11 شخصا من إجمالي126 عاملا علي المنصة, ولم يفلح ما قيل عن تجمع أفضل العقول الإنسانية في وقف التدفق الهائل من آلاف البراميل من النفط بلغت بعد شهرين من الأزمة ملايين. وكما يحدث في هذه الحالات فإن الشركات, والدول أيضا, تميل إلي التقليل من شأن القضية, فجاءت التصريحات تهون من التسرب, وتضع حجمه فيما لا يزيد علي تسرب خمسة آلاف برميل, بينما الشركة البريطانية لديها القدرة علي التعامل مع250 ألف برميل من التسرب. ولكن سرعان ما ظهر أن التسرب يزيد علي60 ألف برميل يوميا, وأن قدرات الشركة لا تزيد علي خطط ورقية ثبت أنه لا وجود لها في الواقع. ورغم التكرار الدائم من جانب الرئيس أوباما بأن هناك أكثر من1900 سفينة و20 ألف شخص يساعدون في القضاء علي التسرب فإن النتيجة هي حدوث أسوأ تسرب تشهده الولاياتالمتحدةالأمريكية في تاريخها, بل إنه ينذر بكارثة سواء علي الصعيد الاقتصادي أو البيئي. وهكذا وجد أوباما نفسه ليس فقط في مواجهة حروب عليه أن يخوضها, بل أيضا أمام كارثة عليه أن يثبت فيها كفاءته السياسية والإدارية, وانتظر الأمريكيون ردا مختلفا عما حدث خلال فترة جورج بوش, ولكن كان هناك داخل إدارة الرئيس من هون أيضا من شأن الكارثة, ودعا إلي أنه لا يجوز أن تصرف الأحداث في خليج المكسيك نظر الإدارة عن تنفيذ البرنامج الذي وضعته لنفسها. وبالطبع لم يمض وقت طويل حتي باتت الكارثة من الإلحاح بحيث يستحيل علي الرئيس الأمريكي تجاهلها, ومن ثم شمر الساعد لكي يتعامل مع الكارثة ونتائجها السياسية والاقتصادية, وكما هي العادة لكي يحولها من مخاطرة سياسية كبري إلي فرصة عظيمة لتنفيذ برنامجه الخاص بالطاقة الجديدة والنظيفة أيضا لكي تحل محل الطاقة الكربونية وفي المقدمة منها البترول. مثل ذلك الذي حدث كان كفيلا بأن يعيد إلي الأذهان نقاشا عنيفا داخل الولاياتالمتحدة حول النفط وبدائله, وهو النقاش الذي ينبع من مصالح متعددة بين الشركات والولايات التي لها توقعات اقتصادية من مصادر الطاقة المختلفة. ولا يخلو الأمر بالطبع من نوازع فكرية وأيدلوجية تري الطاقة الكربونية الفحم والبترول والغاز من مصادر تدمير الكوكب; ولم تكن هناك صدفة في أن يتم استدعاء المخرج الأمريكي جيمس كاميرون صاحب تايتنك وأفاتار إلي ساحة الكونجرس لكي يبدي الرأي في ضرورة الحفاظ علي كوكب نظيف. ولا كانت هناك صدفة في استدعاء الممثل كيفن كوستنر الذي عرف فجأة أنه يمتلك شركة كبري لتنظيف البحار من تسرب النفط. ومن المؤكد أن الظهور المفاجئ لجيمس كاميرون وكيفن كوستنر يعكس واحدة من الخصائص الأمريكية في عدم القدرة علي استبعاد هوليوود في ساعة أزمة حزينة; ولكنه من ناحية أخري يعكس تلك الحالة من الحيوية التي لا تستبعد أحدا من الحوار العام في ساعة أزمة لا يعرف أحد حلا لها علي وجه التحديد. والحقيقة هي أن القضية باتت لها عدة وجوه أمريكية وعالمية: أولها أنه مع النمو الاقتصادي العالمي الهائل خلال العقود الأخيرة أصبحت الحاجة إلي النفط تدفع للبحث عنه دون استثناء المنالطق الصعبة, وفي المناطق الصعبة يوجد دائما مجال واسع لأحداث غير متوقعة. وثانيها أن الشركات الكبري, في سعيها للربح وإرضاء المساهمين فيها باتت تبالغ في اختصار الكثير من إجراءات الأمان اعتمادا أو اعتقادا في قلة المخاطر. وثالثها, أن القيود التي فرضتها الحكومات الغربية, وبالذات الولاياتالمتحدة علي عمليات التنظيف حتي تتم حماية الحياة البرية والبيئة البحرية في العموم خلقت صعوبات كبيرة أمام عمليات التنظيف السريعة الممكنة. ورابعها, أن الأمر لا يخلو أيضا من انتهازية حيث تدافعت الحكومات المحلية للضغط علي الشركة البريطانية من أجل الحصول علي تعويضات عادلة عن كل شيء سييء سواء كان واقعا قبل الكارثة أو بعدها. وخامسها أن القضية برمتها ليست منفصلة عن النقاش الدائر داخل الولاياتالمتحدة وخارجها أيضا حول دور الدولة والقطاع الخاص بما فيها الشركات الدولية العملاقة في التنمية الاقتصادية. وسادسها أن الأمر برمته جديد, ومع بداية الأزمة قدمت الشركة البريطانية تعويضات قدرها1.6 مليار دولار للجهات المضارة, ولكن الحكومة الأمريكية طلبت20 مليار دولار للتعامل مع الأزمة بينما لا يوجد لدي الشركة لدي البنوك إلا سبعة مليارات فقط, وهو الأمر الذي ربما كان سببا في اتفاق الرئيس أوباما مع الشركة علي إنشاء صندوق تعويضات بقيمة ال20 مليار دولار لتعويض المتضررين. وسابعها أن عمليات الإنقاذ كلها تحتاج إلي تمويل أضخم مما تستطيع الشركة البريطانية تقديمه, ومن ثم هل يجوز فرض ضرائب جديدة تبلغ50 مليار دولار للإنفاق علي هذه المهمة؟ وثامنها أن كل هذه الأمور واقعة ضمن الصراع السياسي والأيديولوجي الدائر في الولاياتالمتحدة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري استعدادا لانتخابات التجديد النصفي للكونجرس, ومن بعده تلوح الانتخابات الرئاسية من جديد. وتاسعها, أن شبح المحافظين الجدد ظهر من جديد مبشرا بفشل تجربة أوباما الليبرالية, ومنذرا بأنه آن الأوان للعودة إلي أجندة جورج بوش مرة أخري التي يري المحافظون أن أحد أسباب فشلها هو خيانة بوش نفسه لها خلال فترة رئاسته الثانية, وتخليه عن الكهنة العظام للفكر المحافظ الجديد. ولمن يشعرون الآن بالسخط علي أوباما, فربما يكون عليهم الانتظار حتي تأتي أيام أخري تقود فيها سارة بالين الولاياتالمتحدةالأمريكية!. إلي أين يأخذنا ذلك كله؟. الإجابة عن ذلك السؤال لابد أن تأتي في إطار النظر تجاه الولاياتالمتحدة باعتبارها دولة من الأهمية بحيث يجب متابعتها عن قرب; وفي إطار النظر تجاه مصر حيث الأسئلة فيها مطروحة بنفس الدرجة والحدة المطروحة بها في الولاياتالمتحدة. وكل ذلك مع الأخذ في الاعتبار الفارق بين البلدين في معطيات كثيرة, ولكن التحديات واحدة في كل الأحوال. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد