كان أولجادو يجلس إلي مكتبه ينظر في قائمة مواعيده اليومية, عندما فاجأته ذكري لا تخصه شخصيا, إذ رأي نفسه في هذه الذكري يساوم باللغة الفرنسية التي ليست لغته الأصلية إحدي بنات الليل علي ناصية شارع لا يعرفه, صحيح أننا نألف غرائب الذاكرة وتناقضاتها, حيث نستطيع أن نتذكر شيئا بوضوح تام في حين لا نتذكر شيئا آخر البتة, وإن كان قريب الحدوث, وصحيح أيضا أن الذاكرة يجري استثارتها لاستدعائها استرجاعها, لكن هل صحيح أن الذاكرة يمكنها أن تمارس ضربا من الاستعارة لتجربة مستقلة عنا, تخص بالأساس غيرنا, فتدفعها لتمتد داخلنا, فتتلبسنا وتخلق هذا الوجود المزدوج؟ تري هل يمكن أن يكون ذلك محض حلم؟ الحقيقة أن ألجادو لم يكن نائما فهو يجلس إلي مكتبه منتبها يتابع عمله, تري هل الأمر يمثل نسيجا غير واقعي أنتجته المخيلة؟ لاشك أن المشكلة تكمن في مدي امتداد تلك الذكري حتي يمكن أن تصدع هويته, بمعني أن تسكنه فتحاصره وتعزله, أو تشتت حضوره وتفككه بتكرارها وتنوعها فتزاحم حياته, وتبدد طاقته, هرع أولجادو إلي مركز الشرطة وروي حكايته الغريبة, فجأة توقف عن الكتابة رجل الشرطة الذي كان يتلقي البلاغ إذ اصابته الدهشة من الحكاية التي تغيب عنها اقتضاءات العقل, ويبدو أنه أدرك أن صاحب البلاغ يتحدث عن ذكري تمثل ملكية خاصة له, وربما أيضا استشعر أن المعلومات التي طرحها غير قابلة للتصور, حيث ليس أمام رجل الشرطة شيء ملموس أو مبصر, وهو ما يعني ألا مسئولية لفاعل, أو اشارة مضيئة إلي نتائج فعل يتبدي ظاهرا, وذلك ما يشكل معضلة في التحقق من صدق ما يدعيه أو كذبه, لذا راح رجل الشرطة يتأمل صاحب البلاغ محاولا التكهن من مظهره إن كان مجنونا خطيرا, أو مجرد مجنون عادي, وعندما يتقن من عدم خطورته نصحه بأن يبعث ببلاغه إلي واحدة من المجلات الكثيرة, المخصصة لنشر الموضوعات الخارقة للطبيعة. خرج أولجادو إلي الشارع مذعورا من فكرة فقدانه الاحساس بالواقع, الذي أودي به إلي الذهاب إلي مركز الشرطة بحكايته الغريبة, ومع ذلك ففي الأسابيع التالية تفاقمت صور ذكرياته عن نفسه وهو يفكر بالفرنسية, ويسير في شارع مدينة غريبة, فأصبح بذلك معلقا في الفراغ مفتقدا مركزا في داخله, وإطارا لتوجهه, إذ هو يبارح كائنه إلي ذات بديلة في بلد غير وطنه فيمارس أفعالا ووقائع غير مسبوقة لا تدل عليه, فساوره الخوف بعض الوقت من أن يجن, وكان طبيعيا ألا يخبر أحدا بمحنته, وحاول ألا يشي سلوكه العام بما يكشف حالته, اعتاد هذه الصور, وخاصة بعد أن تأكد أنها ليست دائمة, وتعايش معها, وأصبحت تشكل متنفسا للانفعالات في حياته التي علي ما يبدو كانت منظمة وخاضعة للقواعد والقوانين. صحيح أن الذاكرة الواعية تعني التفكير بقصد في الأشياء الغائبة لاستدعائها, صحيح أيضا أن أحدا لا يستطيع أن يمتلك ذاكرة غيره, وصحيح كذلك أنه من المستحيل تذكر شيء ما في حالة عدم حدوثه لغياب تصوره, إذن هل صحيح أن ما يجتاج أولجادو ويتمدد داخله, هو علي الحقيقة محض ذكريات عن نفسه أم تصورات مغايرة له خلعها علي ذاته, فتبددت له ذات موازية لحياته؟ إن أولجادو لا يتحد بهذه الذات تماما فهي تأتيه وتذهب عنه, فهو لا يعيش معها في وطنه, وإنما تعيش هي في أرض بديلة غريبة, لذا فإن أولجادو يتأرجح بين ثنائية وجود الشخصين في مكانين مختلفين, متماديا في العيش في وطنين بهويتين يتعامل في ظلهما مع النقيضين في آن معا, تري هل يمكن أن يمارس أولجادو حياة ذات مصيرين؟ تزايدت حالة الالتباس لدي أولجادو تحت وطأة تنامي الثنائية التي يعيشها وأصبح من الصعب وداعه لذلك العيش المزدوج الذي أسال هويته, بمعني أنه لم يعد هو نفسه هو, بل أصبح هو ومعه هو مغايرا له, وفي ظل حصار هذا الوهم تهاوي العقل عن الحسم بأن يضع حدا لذلك التأرجح بين إحدي الشخصيتين. أطلق أولجادو علي الذات الأخري اسم الفرنسي, الذي كان يخرج بكثرة للعشاء مع أصدقاء صاخبين, وبعد ذلك يرتاد أماكن ليلية للمتعة المتسعة, لا يجرؤ أولجادو أبدا علي الذهاب إليها وذلك لرعبه الخرافي بأنه سيذوب في هذه الأماكن مع أقل اتصال بها, لقد كان يسرع الخطي عندما يمر أمام أماكن اللهو, ويحلم أن يلجأ ذات مرة ليتعرف مغاليقها عبر دهاليزها. لم يكن أولجادو فرنسيا قط, ومع ذلك اعتاد بمرور الوقت أن تسكنه ذكريات لأحداث لم يشهدها, تخص ذاته الفرنسية التي يتجوهر صاحبها به, بوصف أنه ذاته, وليس خارجا عنه, لقدكانت مشكلة أولجادو مع ذاته غير الفرنسية, أنه قلما يلتقيها بسبب الاختراق المتناوب والمتداخل لعالمه من جانب الذات الفرنسية المغايرة له, من خلال احتكارها الانفتاح الدائم, والتسلط عليه, باستحضارها لصور ذكريات ممارستها التي تتجلي في مغامرات, ولهو, وتجاوزات باسم استقلالية الفرد. صحيح أن أولجادو كان احيانا ما يضطر إلي الاعتراف أمام نفسه بأن هذا الفرنسي مجرد مرض معنوي, لكن الصحيح أيضا أنه لم يستطع علي مدي الزمن أن يدفع اكراهاته عنه, والصحيح كذلك أيضا أنه كان يستمتع بكل ذكريات المغامرات, ويستنبطها بالشغف العارم للمتلصص الفضولي, وعلي ما يبدو أن هذه الذكريات كانت تحقق له في وقت واحد الاحساس بالفصل عنها, وكذلك الوصل بها, لقد تحقق أولجادو أن عادات الفرنسي الأخذ بنظام صارم واحد في ممارسة أنشطتهما, هذا التباين في نوعية الممارسة, وذلك التماثل في صرامة النظام الذي يحكمها استحثا أولجادو علي طرح سؤال يتعلق بايضاح الظاهر والباطن في سلوكهما. إذ تساءل عما إذا كان الفرنسي يغبط حياته التقليدية, كما يستمتع هو بمغامراته في وجهها السلبي المنافي ظاهريا لنزعته, لاشك أن السؤال يؤكد أن ثمة وجها مكشوفا ومعلنا ووجها آخر محجوبا ومخفيا, تري أيهما إذن الوجه الحقيقي؟ استثناء ملحوظ تبدي في سياق معيشة أولجادو كان يطل واضحا من ملامحه وعينيه ولسانه, فقد أصبح ساهما إذ امتلكه الاهتمام بذاته الفرنسية, وبدأت تزوره ذكريات غير مكتملة للفرنسي في مكان يبدو مسكنه, لكنها ذكريات غير متوافقة مع كل ما اعتاده, تمثل انقلابا لم يسبق أن مر بمثله من ذكريات كانت تلاحقه إذ يري ذاته في جدال دائم مع الزوجة الفرنسية, وهي جالسة فوق مقعد متحرك, وتحكم العالم من جلستها تلك, تواترت ذكريات المناقشات وتعددت. استشعر أولجادو المرارة من هذه المشاهد, حيث أدرك أن هذه المناقشات ليست مشاجرات زوجية عادية, إنها المرة الأولي في هذه العلاقة الالتباسية التي يكف فيها أولجادو عن التواطؤ في ممارسة الاستمتاع بذكريات ذاته الفرنسية التي كانت تبهره, تري هل لأن المشهد لم يخلبه مثل ذكريات المغامرات بمتعها؟ أم تري أنه استشعر في المشاهد أن ثمة صدعا يحذر من مصير قادم يأتي مغايرا لكل توقعاته لن يستثني حدا في علاقة ذاته الفرنسية بزوجته؟ تقاعد أولجادو عن العمل وفجأة بدأت ذاكرته تضخ صورها, فرأي نفسه يخنق زوجته الفرنسية, بجورب من الحرير, وهي جالسة علي المقعد المتحرك, أفقده لمشهد توازنه من هوله وعنفه, فسقط مريضا ولازم الفراش, حيث رافقه رعب يهدده بالذكريات مقبلة لن يستطيع احتمالها, كأن يري مشاهد التخلص من الجثة, أو قبول فكرة القبض عليه, ويسجن في هذا العمر, لاشك أن رعبه قد تأتي من إدراكه المتأخر بأن كل مغامرة تفرض استحقاقها, إذ كان يستمتع في الخفاء دون إقرار بدفع الثمن, تري هل أصبح أولجادو في حلبة صراع مع ذاته المناقضة له؟ هل يعني ذلك استدراكه لاعادة صياغة ذاته, ورأب صدع هويته؟ بعد شهر نهض أولجادو وبدأ يتمشي في منزله تحت رعاية أسرته الدائمة, لكن كان كل ما يتذوقه له طعم التراب, صحيح أن ذكريات ذاته الفرنسية استمرت تأتيه, لكن الصحيح أيضا أنه لم يشعر بها, تري هل يعني ذلك أن الذكريات كانت تخترقه, لكنه لم ينفتح عليها, لتحرره من سيطرتها؟ تأمل أولجادو يوما هذه العادة الغريبة التي صاحبته طول حياته, فتوصل إلي فكرة تبرر عدم تذكره الآخر الفرنسي, مفادها أنه ربما مات بسكتة قلبية نتيجة المجهود الذي بذله وهو يخنق زوجته, أو ربما أن الزوجة قد طعنته بمقص كانت تحمله, لحظتها أدرك فجأة لما كان يستشعر من وقتها أن كل ما يضعه في فمه له طعم التراب, عندئذ سقط منهارا علي الأرض قبل أن يصل الرعب إلي درجة لا يحتملها, لقد امتد الرعب إلي مساحات جديدة, تجلت في خوف أولجادو من أن يموت كما ماتت ذاته الفرنسية. إن الكاتب الاسباني خوسيه مياس, المولود عام1946 في قصته ذكري رجل غيري يؤكد أهمية الموقف المعرفي الحقيقي تجاه الواقع والذات, إذ لا يمكن لأي مفهوم معرفي أن ينسجم مع الذات والواقع, إلا إذا استطاع أن يحررهما من تناقضاتهما وعدم معقوليتهما. إن أولجادو لم يفلح في تقويض علاقته العمياء بواقعه, وبذاته التي عزلته وشوشت حياته, إذ مازال يخضع ذاته وواقعه لمفهوم زائف ويربطهما به, حتي انه بعد نسيانه ذكريات ذاته الفرنسية لم يبحث عن امكانية تحقيق شرعية وجوده, واعادة تأسيس حياته, وذلك برأب صدع هويته, بل انقاد إلي جذب تصوراته الزائفة التي ارتدت به, وأوقعته في رعب ممتد يرتكز علي افتراض أن موت ذاته الفرنسية الوهمية التي يتقمصها إنما يعني ضرورة موته أيضا, لقد حكم عليه المفهوم الزائف بالانغلاق التام عن متابعة حقائق ذاته وواقعه, فراح يدور حول محاور غير مرئية ورطته في معتقدات غير منطقية وتصرفات غير مقبولة, استجلبت إليه حالات من الاستفاضة في تجاوز عالم الضرورة, واخفاء عالم الممكن والتمسك بالوهم, وذلك ما حرمه ممارسة سلطته علي ذاته, ففقد حس المصير الذي دفعه إلي مأزق العيش بهويتين متناقضتين لهما وجهان, حيث الوجه الفرنسي يشكل بالنسبة إليه طاقم الدعم الخفي, ويجعله قادرا علي العيش بوجهه الوطني المرئي, وإذا ما غاب الدعم انهار أولجادو.