'هذا هو أول كائن حي يتكاثر علي سطح الكرة الأرضية أبوه وأمه هو الكمبيوتر'! كانت هذه هي الكلمات التي عبر بها العالم' كريج فنتر' عن الطفرة العلمية والإنجاز الرائع الذي توصل إليه هو وفريقه البحثي في مريلاند بالولايات المتحدة . عندما أعلن عن' تخليق' أول حياة اصطناعية من خلال تصنيع الحامض النووي دي_ إن_ إيه من المواد الخام المكونة له من4 من القواعد النيتروجينية التي تتكرر في هذه الخلية1.02 مليون مرة( بينما تتكرر الخلية البشرية3.2 بليون مرة) مع مادة محفزة من الفوسفات والسكر, بحيث تم انتاج جينات هذا الحامض النووي بناء علي الأوامر والخريطة الجينية الموضوعة من الفريق البحثي مسبقا علي الكمبيوتر, لكي تحمل الخلية الجديدة الصفات المراد إظهارها فيها, بغض النظر عن صفات الحامض النووي للخلية البكترية الأساسية. ولكي نفهم بالضبط ماذا حدث ينبغي أن نستعيد معا تركيب الحامض النووي سواء كانDNA دي_ إن_ إيه أوRNA آر_ إن_ إيه, لكي نستطيع التعرف علي ما تم انجازه في هذه الخطوة العملاقة التي تحققت من خلال هذا الانجاز العلمي, فالحامض النووي' ديوكسي ريبونيوكليك' أو ما يطلق عليه دي- إن- إيهDNA يحتوي علي الصفات الوراثية والجينات التي سوف يورثها الكائن الحي لسلالته التي تأتي من بعده, وكل خلية حية تحتوي علي نواة موجود بها هذا الحامض النووي الذي يحمل صفاته الوراثية إما من خلية أم تحمل هذه الصفات كما في البكتيريا والفيروسات, أو من بويضة وحيوان منوي يندمجان ليكونا نطفة تحمل جيناتها الصفات الوراثية من كل من الأم والأب. ووحدات بناء الحامض النووي, تسمي:' النيوكليوتيدات' وهي تشبه الأحجار التي يتكون منها بناء الحامض النووي, وتتكون من: سكر( ديوكسي رييوز في حالة حامض دي- إن- إيه, ورييوز في حالة حامض آر- إن- إيه), ومجموعة فوسفات, وواحدة من اربع قواعد نيتروجينية اي: تحتوي علي النيتروجين, اثنتان منهما تنتميان إلي مجموعة البيورين وتسميان: أدينينA وجوانينG واثنتان تنتميان إلي مجموعة بايريميدين وتسميان: ثايمينT وستوزينC. والحامض النووي عبارة عن: سلم حلزوني يتكون جانباه من السكر والفوسفات, أما درجات السلم فتتكون من الأربع قواعد النيتروجينية, بحيث يجب أن تلتقي القواعد التي تنتمي إلي مجموعة' البيورين', بواحدة أخري من التي تنتمي إلي مجموعة' بايريميدين' في وسط درجات السلم, حتي إذا انقسم الحامض النووي إلي جانبين أو شطرين, فإن كل جانب يلتقي فيما بعد بالجانب أو القاعدة النيتروجينية المكملة له, لكي تكتمل درجات السلم مرة أخري تماما مثلما نفتح السوستة فيصبح لدينا جانبان, ثم نغلقها فيدخل كل جزء من الجانب في الجزء المكمل له من الجانب الآخر.. وهكذا, ومن هنا يمكن لهذا الشريط الحلزوني المزدوج من الحامض النووي دي- إن- إيهDNA أن ينفك من وسطه إلي جانب واحد مفرد فقط, تماما مثلما نفتح السوستة فتتحول إلي جانبين منفردين, إلا أن كل جانب يمكنه أن يجذب جانبا آخر مقابلا له حتي يحدث الازدواج مرة أخري, ويصبح لدينا اثنتان من السوست التي تنغلق وتصبح مزدوجة ولها نفس الشكل والصفات, أي أن ما كان معروفا قبل هذا الكشف العلمي أنه لا بد أن يكون لدينا قالب من الحامض النووي بترتيب معين للقواعد النيتروجينية والجينات الي تعطي الصفات للكائن الحي, لكي أستطيع أن أكبره وأجعله يتكاثر لتكوين كائن حي يحمل هذه الصفات, أما ما تم الإعلان عنه فهو أن' فنتر' وفريقه قد صنعوا هذا القالب, بالصفات التي حددوها من خلال خريطة جينية تم وضعها علي الكمبيوتر, وتحضير قالبها من المواد الخام الأولية التي يصنع منها القالب أو الحامض النووي ومكوناته, فلو افترضنا: أن القواعد النيتروجينية في الجينات تمثل الحروف الأبجدية, وأن كل ثلاثة أحرف منها تتلاصق وتكون ثلاثية, فإن هذه الثلاثيات من القواعد النيتروجينية تكون بمثابة: الكلمات التي تكونت من الحروف, وعلي ذلك يمكن أن يعطي أي تغيير في ترتيب الحروف تغييرا في معني الكلمة( قصر صقر رقص), ويمكن أن يعطي التغيير في ترتيب الكلمات تغييرا في معني الجملة, وكذلك التغيير في معني وترتيب الجمل, يعطي الموضوع مفاهيم وأبعادا أخري متباينة. والآن نناقش بعض الأمور التي صاحبت الإعلان عن هذا الحدث العلمي الضخم الذي يشبهه البعض باستنساخ النعجة دوللي في أهميته وتطبيقاته التي يمكن أن تحدث, وأيضا المخاطر التي يتوقع حدوثها من بعض هذه التطبيقات, وأول هذه الأمور التي أثارت الجدل هو التعبير الذي استخدمه' فنتر' من أن هذا الكائن أو الخلية الذي تم تحضيره, إنما هو كائن مخلق أو اصطناعي تم تحضيره أو خلقه تماما في المعمل, ولا يمت لأي من الكائنات الحية بصلة, والحقيقة إن هذا التعبيرقد جانبه الصواب لأن ما حدث_ علي الرغم من كونه انجازا علميا هائلا إلا إنه ليس خلقا علي الإطلاق, وإنما نستطيع أن نعتبره إعادة ترتيب لمواد خام مخلوقة, مثلما نصنع الزجاج من التراب, فيعطينا شكل وصفات جديدة تختلف تماما عن التراب, وقد يقول قائل: ولكن أكواب الزجاج لا تتكاثر مثلما حدث في الكشف الأخير, ومن الذي قال إن علم الله_ عندما يريد أو يشاء_ لا يستطيع أن يخرج بعض أسراره التي يكشفها لنا تباعا لكي نتبين طلاقة قدرته فيما لا نستطيع أن نصل إليه حتي الآن, وربما نجد دليل هذا في الآية الشريفة:' فتبارك الله أحسن الخالقين' أي أنه سبحانه يعلم أن هناك أشياء يمكن أن تحاكي الخلق, ولكنها ليست خلقا, ومع فرض وجودها, فإنها لا تصل ابدا إلي إبداع وكمال صنعة الله الخالق الأعظم عز وجل, فالقواعد النيتروجينية مخلوقة, وجدار الخلية البكترية الذي استخدم كوعاء لوضع الحامض النووي به مخلوق, وله صفات مميزة لا نستطيع أن نحاكيها تماما مثل البويضة المفرغة من الجينات في حالة الاستنساخ, والكمبيوتر الذي تم وضع البرنامج عليه مخلوق, والمخ البشري الذي وضع برنامج الحياة لتسلسل هذه الخلية الجديدة مخلوق, فلا داعي للسفسطة والجدل, وتحويل الموضوع إلي مسألة جدلية دينية ولنناقش الموضوع من الناحية العلمية. إن ما حدث إنما ينقلنا إلي مرحلة متقدمة من العلم, فلو افترضنا أن الخلية الحية أو البكتريا التي تم تحضيرها هي بناء, فالذي كنا نستطيع عمله من أجل تحضير هذاالبناء هو أن نأخذ رسم أعمدة الأساس, ونأتي بحوائط سابقة التجهيز لوضعها بين الأعمدة حسب الرسم الموضوع مسبقا من اجل أن نرفع هذا البناء, أما الآن فنحن نستطيع أن نضع الرسم الذي نريده, ونصنع بناء علي هذا الرسم الأعمدة والحوائط من المواد الخام( الرمل_ الزلط_ الاسمنت_ الحديد_ الطوب), ونقيم الجدران ولا نأتي بها مصنعة مثلما كنا نفعل من قبل, ولكن ما قيمة هذا ؟ قيمة هذا أننا نستطيع- من خلال معرفتنا بالخريطة الجينية للكائنات المختلفة سواء كانت بكتريا أو فيروسات أو حتي الخلية البشرية- أن نضع برنامجا جينيا( في الطحالب مثلا) من أجل إنتاج طاقة حيوية نظيفة تغنينا عن استخدام البترول وغيره من مصادر الطاقة غير النظيفة, أيضا نستطيع أن نحضر أنواعا من البكتريا النافعة التي تخلصنا من القمامة والمجاري وتحولها إلي طاقة أيضا, كما نستطيع أن نصنع بكتريا أو طحالب تمتص ثاني اكسيد الكربون وتنتج الأكسجين, وبذلك نستطيع أن نتخلص من الخطر الذي يهددنا نتيجة ارتفاع درجة حرارة الأرض وزيادة نسبة ثاني اكسيد الكربون في الجو, مما يهدد بغرق مناطق كثيرة من اليابسة, نستطيع أيضا أن نصنع كميات كبيرة من اللقاحات لكثير من الكائنات الحية الضارة من البكتريا والفيروسات المميتة, كما نستطيع أن نصنع جينات مثبطة للأورام بحيث نقضي عليها في مهدها. إذن ما الذي يشغل بال العلماء ؟ في الحقيقة هناك كثير من التحفظات التي يخشي العلماء منها, فالذي يحضر العفريت لابد أن يعرف كيف يصرفه, وحتي الآن لا يستطيع أحد أن يعرف كيف سيسير سلوك هذا الكائن الجديد المصنع, وماذا سيكون عليه في حالة حدوث طفرات جينية له, أو في حالة عدواه بكائن آخر مثل البكتريا التي يتم عدواها بالفيروسات! أيضا من ضمن التحفظات التي يخشي منها العلماء هو استخدام مثل هذه الكائنات الاصطناعية كأسلحة بيولوجية تحمل صفات معينة ثم لا نستطيع التحكم فيها بعد ذلك, وكذلك محاولات تطبيق هذا علي الخلية البشرية والإنسان من أجل اكسابه صفات كمال قد تتحول إلي صفات كارثية, وبدلا من أن يصبح سوبرمان يصبح فرانكشتين. وأخيرا.. دعونا نواجه أنفسنا ونتصارح, فنحن لم نعد نجلس في مقاعد الجماهيركما كنا دائما نصف أنفسنا في مجال البحث العلمي_ ولكننا أصبحنا نقف خارج الاستاد لكي نهلل فقط عند سماع الصيحات لدخول جول أو لضياعه, وليس لنا في الأمر لا ناقة ولا جمل. المزيد من مقالات عبد الهادى مصباح