في جو مضطرب ومتناقص فكريا وعقديا والذي مثل كل من المعتزلة والحنابلة الغلاة طرفي النقيض فيه, ولد الأشعري الذي درس الاعتزال وأصبح أحد الأعمدة الكبري في مدرسة المعتزلة. ثم ألمت به أزمة فكرية حادة من تلك التي تصيب النخبة العليا من أهل النظر والاجتهاد حين يتبدي لهم وجه الحق والصواب. وأغلب الظن أن اضطراب الفرق الاسلامية من حول الأشعري وتطاحنها ونزولها بهذه المعارك إلي العامة, هو ما دفع به إلي هذه العزلة بحثا عن الاسلام الصحيح الذي جمع به النبي صلي الله عليه وسلم بين أشد القبائل والبطون والعشائر تنافرا واقتتالا, وما لبث الأشعري أن أعلن علي الناس رجوعه عن هذا المذهب, وعزمه علي تأسيس مذهب أهل الحق الذي نسب إليه لاحقا. هذا ولم يكن الأشعري أستاذا في علوم العقيدة فقط, بل كان مؤرخا من الطراز الأول للعقائد ولمقالات الاسلاميين. وقد مكنه هذا التخصص من أن يضع يده علي مواطن الضعف والقوة في كل فرقة من الفرق التي ضمها مؤلفه الجامع المسمي مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ولعلكم تلمحون معي من عنوان هذا المرجع الكبير نزعة التصالح والسماحة وكراهة الشقاق حول أمور تسع الجميع, فهذه المقالات مقالات إسلامية, وهذه الاختلافات اختلافات مؤمنين يصلون إلي قبلة واحدة. ونزعة التصالح هذه هي الخصيصة الكبري التي اتسم بها مذهب الامام الأشعري الذي لا يكفر أحدا من المسلمين, يشهد لذلك نقده العلمي اللاذع لمذهب المعتزلة ولغلاة الحنابلة دون أن يكفر أحدا منهم وقد اكتفي بنقده لغلاة الحنابلة ببيان خضوعهم لأحكام الوهم وتمردهم علي أحكام العقل, ومن هنا ثقل عليهم النظر علي حد تعبيره. وقد بين الامام في صراحة أن كلا من المذهبين السابقين لا يعبر عن الاسلام تعبيرا كاملا, وأن أيا منهما لم يلق قبولا عند جماهير المسلمين.. وذلك علي عكس المذهب الذي استخلصه الامام الأشعري ومعاصره: إمام الهدي أبو منصور الماتريدي في بلاد ما وراء النهر, وشكلا معا جناحي أهل السنة والجماعة. ولايمكن بطبيعة الحال أن نذكر ولو علي سبيل الاجمال تفاصيل المذهب الأشعري, ولا نقاط الضعف التي كشفها في مقولات المعتزلة والحنابلة, وما الخصائص التي تميز بها مذهب أهل السنة والجماعة وأهلته لأن يسود الأمة الاسلامية شرقا وغربا إلي يوم الناس هذا. فهذا له موضع آخر اكثر تفصيلا غير أنه إذا كان للأزهر من آمال يرجوها للمسلمين فإنها تتمثل في أمور: أولا: نشر التراث الوسطي وإذاعته بين الناس لتقف به الأمة في وجه نزعات التكفير والتفسيق والتبديع, في خلافيات تسع الناس جميعا, وذلك حتي نتمكن من وقف هذه التداعيات التي توشك أن تقضي علي وحدة الأمة وقوتها.. والمذهب الأشعري هو الأجدر بهذا الدور, لأنه المذهب الذي يروي ابن عساكر عن إمامه الأشعري أنه حين قرب حضور أجله في بغداد قال لأحد تلامذته: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة, لأن الكل يشيرون إلي معبود واحد, وإنما هذا كله اختلاف العبارات ثانيا: إحترام التوازن في الجمع بين العقل والنقل, وإنهاء الخصومة المصطنعة بينهما والتي تسيطر الآن علي بعض الأفهام. وهذا ما نجده بوضوح في تراث الإمام الأشعري وبخاصة في رسالته المعروفة بالحث علي البحث في عنوان آخر استحسان الخوض في علم الكلام. ولعل هذا هو السر في احتضان الأزهر هذا المذهب منذ القدم وتعويله عليه في مختلف العلوم الاسلامية: في العقائد والتفسير والحديث وأصول الفقه وعلوم اللغة, وطبعه بطابع الوسطية والاعتدال, وتمكن هذا المعهد العريق من قيادة الأمة في طريق وسط بعيد عن التطرف وعن التميع معا. الأمر الثالث: إصلاح همم الأولويات المقلوب رأسا علي عقب, وإعادته إلي وضعه الصحيح, وذلك بالتركيز علي جوهر الدين, وعلي المتفق عليه بين المسلمين, ثم علي المشترك بين المسلمين وغير المسلمين من المؤمنين بالأديان الأخري, وأن نحتكم في ذلك إلي قوله تعالي: لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فاؤلئك هم الظالمون إن الأزهر بما له من تاريخ عريق في الحفاظ علي الاسلام والدفاع عنه, يعلن للناس جميعا أن من أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من السياق العام لفكر الامام الأشعري ضرورة العمل علي نشر الأمن والسلام بين الناس جميعا, ونبذ جميع صور العنف التي تروع الأبرياء والآمنين, ورفض ما يرتكبه بعض المنتسبين إلي الاسلام من جرائم التفجير والتدمير والترويع, وقتل النفوس البريئة العاملة, وفي الوقت نفسه يطالب الأزهر دول أوروبا وأمريكا أن تحث صناع القرار هناك علي ضرورة توخي العدل في سياساتهم, وأن يتوقفوا عن سياسة الكيل بمكالين في قضايا الأمة العربية والاسلامية, وأن يتحلوا بالجدية والمسئولية والانصاف وهم يتعاملون مع قضية القضايا في تاريخنا المعاصر وأعني بها قضية شعب فلسطين المشرد والمعذب والمظلوم, وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون..