طرح قيام أربع دول منابع نهر النيل( أوغندا وتنزانيا ورواندا وأثيوبيا) بالتوقيع علي اتفاق التعاون الاطاري(' الاتفاق') العديد من التساؤلات أهمها مدي قانونية تصرف هذه الدول بالتوقيع علي الاتفاق وما تأثير هذا التوقيع علي الحقوق القانونية لمصر والثابتة بموجب الاتفاقيات الدولية السارية. وقبل أن نجيب علي هذا التساؤل من جوانبه المختلفة نري من الضرورة أن نقدم لهذا الموضوع بعرض موجز لخلفية التعاون بين دول حوض النيل منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي. أولا: خلفية التعاون المشترك بين دول حوض النيل بدأ التعاون بين دول حوض النيل من خلال مشروع الدراسات الهيدرومترولوجية لحوض البحيرات الاستوائية( هيدرومت) وذلك لمواجهة الارتفاع غير المسبوق لمنسوب مياه بحيرة فيكتوريا الذي بلغ ذروته عام.1964 وتعاونت مصر والسودان مع دول الهضبة الاستوائية( أوغندا وكينيا وتنزانيا) للعمل علي تخزين المياه والمحافظة عليها. وبدأ تنفيذ المشروع عام1967, وقد انضمت إليه أثيوبيا كمراقب عام1971 ثم انضمت كل من رواندا وبوروندي عام1972 وأخيرا الكونجو الديمقراطية( زائير حينئذ) عام.1974 وقد حقق هذا المشروع العديد من النجاحات حيث ساهم في إنشاء العديد من محطات الرصد الهيدرولوجي والمحطات الهيدرومترولوجية ومحطات قياس مستوي البحيرات ومقياس الأمطار. أعقب ذلك تأسيس تجمع الأوندجو عام1983 بمبادرة مصرية وانضمت إليه كل من السودان وأوغندا والكونجو الديمقراطية ورواندا وبوروندي وتنزانيا, وبدأ العمل منذ1983, ونجح هذا التجمع في جذب البرنامج الانمائي للأمم المتحدة للعمل مع دول حوض النيل والتعاون والعمل معها نحو تنفيذ خطط التنمية الخاصة بها, إلا أن غياب أثيوبيا وكينيا عن هذا التجمع شكل نقطة ضعف لتنفيذ الأهداف المرجوة منه. أعقب ذلك تأسيس لجنة التعاون الفني لتعزيز تنمية حوض النيل والحفاظ علي بيئته( التيكونيل) عام1992, وانضمت إليها كل من مصر والسودان وأوغندا ورواندا والكونجو الديمقراطية وبوروندي واكتفت كل من أثيوبيا وكينيا واريتريا بصفة المراقب. وبدأ التيكونيل نشاطه عام1993 ونجح في إنجاز عدد من المهام منها تنمية مهارات الكوادر الفنية العاملة في مجال الموارد المائية ووضع خطة شاملة لتنمية حوض النيل والتي اشتملت علي إثنين وعشرين مشروعا تهدف إلي تنمية الموارد المائية وحماية البيئة ومكافحة التلوث وأخيرا تنشيط التعاون وبناء الثقة بين دول حوض النيل. ثانيا: تحرك دول حوض النيل نحو صياغة اتفاق تعاوني ومؤسسي(D3.) نشأت فكرة وضع هذا الاتفاق كمشروع من بين المشروعات الاثنين والعشرين التي سعت التيكونيل إلي تحقيقها, وتمثلت الفكرة الرئيسية لهذا المشروع في التوصل إلي اتفاق يحكم التعاون بين دول الحوض بما يحقق الاستخدام الأمثل لصالح جميع شعوبها. وفي عام1995 اتفق وزراء الموارد المائية بدول حوض النيل علي تشكيل لجنة من الخبراء لتقديم التوصيات اللازمة باستخدام مياه النهر. وبدأت اللجنة أعمالها عام1997 حيث قامت بإجراء دراسات مقارنة للتنظيمات المؤسسية الدولية والاتفاقيات القانونية وحصر المبادئ والقواعد الدولية المستقرة في شأن تنظيم استخدامات الدول المشاركة في نهر دولي واحد. واشتركت في أعمال اللجنة جميع دول الحوض( باستثناء اريتريا) وقام برنامج الأممالمتحدة الانمائي بتمويل أعمالها. وانتهت اللجنة من إعداد مشروع الاتفاق وتم عرضه علي وزراء الموارد المائية خلال اجتماعهم عام2000 حيث قرروا أن هناك عددا من المسائل العالقة التي تحتاج لمزيد من الدراسة والتشاور بشأنها, لذا قرر الوزراء تشكيل لجنة صياغة لوضع مسودة الاتفاق. وقد تم تمثيل كل دولة في هذه اللجنة بعضوين واستمرت في عملها حتي عام2005 إلا أنها لم تنجح في التوصل إلي وضع صياغة نهائية لمشروع الاتفاق نتيجة عدم تمكن أعضائها من الاتفاق علي عدد من النقاط القانونية كان أبرزها وضع الاتفاقيات السارية وعلاقتها بالاتفاق. وتم رفع الأمر إلي المجلس الوزاري, إلا انه لم يتمكن أيضا من الاتفاق حول هذه المواد العالقة وأستمر هذا الوضع إلي أن اأنعقد اجتماع كينشاسا في عام2009 حيث توجهت دول المنابع إلي تبني الاتفاق, وذلك بدون حضور السودان وبمعارضة من مصر. ثم انعقد المجلس الوزاري بالإسكندرية في يوليو2009 حيث قرر الوزراء استمرار التفاوض لمدة ستة أشهر أخري للتوصل إلي اتفاق حول المواد العالقة. وقد بذلت مصر مختلف الجهود لتقريب وجهات النظر من خلال القنوات الدبلوماسية والاتصال المباشر, إلا أن دول المنابع أصرت علي الاستمرار في موقفها حتي أنعقد مؤتمر شرم الشيخ الأخير والذي قررت فيه_ دون تحقق توافق في الآراء بين جميع الدول- التوجه للتوقيع علي الاتفاق بمدينة عنتيبي في14 مايو2010, وسوف نتناول مدي قانونية مثل هذا التوجه من الناحية القانونية فيما بعد. ثالثا: مبادرة حوض النيل بعد انتهاء المدة الرسمية المحددة للتيكونيل عام1998 استشعرت دول الحوض ضرورة وضع صيغة مؤسسية للتعاون فيما بينها لحين الانتهاء من إعداد الاتفاق, وأسفر ذلك عن تأسيس' مبادرة حوض النيل', التي تم تدشينها عام2000 بتنزانيا. وتضم في عضويتها جميع دول حوض النيل( باستثناء اريتريا التي تتمتع بصفة مراقب), وتسعي إلي تحقيق عدد من الأهداف مثل تنمية المصادر المائية لحوض النيل وضمان كفاءة إدارة المياه والاستخدام الأمثل لمواردها وضمان تحقيق التعاون المشترك واستهداف إبادة الفقر وتعزيز التكامل الاقتصادي. وتم وضع الهيكل التنظيمي للمبادرة حيث تشكلت من:(1) مجلس وزاري(2) لجنة استشارية فنية(3) سكرتارية دائمة مقرها مدينة عنتيبي( أوغندا). وتقوم الإستراتيجية العامة لهذه المبادرة علي محورين وهما, الأول: مشروعات الرؤية المشتركة وتشمل حوض النيل بكامله, والثاني: مشروعات الأحواض الفرعية وتشمل مشروعات يتم تنفيذها بين مجموعة من الدول تنتمي إلي حوض فرعي مثل مصر والسودان وأثيوبيا فيما يتعلق بالنيل الأزرق( النيل الشرقي) ودول النيل الأبيض ومعها مصر والسودان فيما يتعلق بالبحيرات الاستوائية( النيل الأبيض). رابعا: مدي قانونية قيام دول المنابع منفردة بالتوقيع علي الاتفاق. بالعودة إلي التساؤل المطروح عن مدي قانونية قيام أربع دول من دول المنبع منفردة بالتوقيع علي الاتفاق بمدينة عنتيبي( أوغندا) يوم14 مايو2010 دون باقي دول حوض النيل ومن بينها دول المصب( مصر والسودان) علي الرغم من بدء التفاوض علي مستوي الدول التسع تحت مظلة مبادرة حوض النيل لمدة جاوزت عشر سنوات. ويتصف تحرك الدول الأربع منفردة بالتوقيع علي الاتفاق بعدم القانونية وذلك للأسباب التالية: (1) عدم اكتمال الاتفاق من الثابت إن مشروع الاتفاق لم ينته بعد ولم يكتمل بناؤه القانوني بشكل نهائي فلا تزال هناك بعض النقاط العالقة وعلي رأسها المادة(14- ب) التي لم يتم الاتفاق عليها بعد. وقد اتفقت دول حوض النيل علي ضرورة التوصل إلي صيغة مشتركة مقبولة لهم جميعا بشأن هذه المادة, حيث لم يقف الخلاف فيما بينها علي مضمون هذه المادة بل أمتد الخلاف إلي كيفية إدراج هذه المادة وما إذا كان يتم تضمينها في صلب الاتفاق أم تدرج ملحقا بالاتفاق. وقد عكس قرار المجلس الوزاري لوزراء الموارد المائية في اجتماعهم بالإسكندرية خلال شهر يوليو2009 هذا الخلاف مما دفعهم إلي تبني قرار يوضح رغبتهم في التحرك للأمام سويا بروح من التعاون تحت مظلة مبدأ عام يتمثل في:' نهر واحد... حوض واحد... رؤية واحدة'. واستجابة لذلك سعت مصر( مؤيدة بالسودان) وقدمت مقترحات مختلفة لمحاولة التوصل إلي صيغة مقبولة لمضمون هذه المادة ولم تستجب دول المنابع لهذه المقترحات وأصرت علي موقفها. وعليه وفي ضوء عدم اكتمال الاتفاق فإن الدعوة إلي التوقيع عليه من جانب دول المنابع وقيام بعضها بالتوقيع عليه يشكل حالة غير مسبوقة لم تشهد السوابق الدولية مثيلا لها, كما أن هذا التصرف يمثل خروجا عن روح التعاون الذي كان الدافع الرئيسي لعمل دول حوض النيل تحت مظلة المبادرة. (2) عدم تحقق' توافق الآراء' اللازم لتبني الاتفاق اتفقت دول حوض النيل- منذ بدء التفاوض- علي مجموعة من القواعد الإجرائية التي تحكم عملية التفاوض علي مستوي اللجان التفاوضية. واتفقت الدول علي إتباع قاعدة' توافق الآراء' وليس قاعدة' الأغلبية' لتبني القرارات( المادة6) بما يفيد ضرورة موافقة أو- علي أقل تقدير- عدم اعتراض أي دولة علي مشروعات القرارات قبل تبنيها., وهو ما يعرف بقاعدة' توافق الآراء'. ويعد اللجوء إلي قاعدة تبني القرارات ب' توافق الآراء' قاعدة أساسية تتمسك بها الدول المتفاوضة بالنسبة لأي اتفاق دولي متي كان موضوع هذا الاتفاق يتصل بالأمن القومي للدول. وبناء علي ذلك يعد قيام دول المنابع بالدعوة لفتح باب التوقيع علي الاتفاق قبل تحقق توافق الآراء وبالتالي قيام بعضها بالتوقيع منفردة هو مخالفة صريحة للقواعد الإجرائية المتفق عليها.