كان, ولا يزال, موقفي من قانون الطوارئ يقوم علي عدد من العوامل التي أظن أنها يجب أن تكون حاكمة في تقييم المسألة: الأول أن الإرهاب هو أول الأخطار التي تتعرض لها البلاد. بل هو الخطر الأول علي التقدم وإمكانيات التحول الديمقراطي في مصر. ولم يكن الأمر أبدا اختيارا بين الإرهاب والديمقراطية, لأن هذه الأخيرة لا تقام إلا في دولة آمنة من الخوف والفزع, ونزعة جماعات سياسية منها إلي انتزاع حق حمل السلاح باسم قضايا ودعوات شتي, وتحدي سلطة الدولة وحقها الشرعي في أن تكون وحدها صاحبة الحق في حمل السلاح واستخدامه أيضا دفاعا عن الوطن ضد أعدائه في الخارج والداخل. لقد كان من المفزع خلال النقاش الأخير حول قانون الطوارئ داخل وخارج مجلس الشعب أن جماعة المعارضين للقانون أهملت في أغلبيتها القضية الرئيسية التي قام عليها القانون وهي محاربة الإرهاب, وكأنه لم يحدث اغتيال لرئيس جمهورية, ومحاولة اغتيال أخري في مكان مختلف, ولم تحدث عمليات إرهابية في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية كلفتها قرابة1400 من الأرواح, وما لا يمكن حصره من الخسائر المادية والمعنوية للشعب المصري والدولة المصرية. وبدا الأمر غريبا أحيانا, عندما بدا وكأن مقاومة الإرهاب هي نوع من الصناعة الحكومية المصرية الخالصة, ولا يوجد في العالم كله قضية اسمها العنف الإرهابي تسعي كل دول العالم لمحاربتها خاصة أنه لا يمر يوم إلا ونجد محطة للمواصلات العامة تنفجر في موسكو, وأشلاء للعشرات تتناثر في العراق وباكستان, وطائرة يجري التدبير لتفجيرها فوق مدينة ديترويت الصناعية في أمريكا, بينما يجهز أحدهم عربة مفخخة للتفجير في ميدان ماديسون الشهير بمدينة نيويورك حيث جرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة. والأخطر أن جماعة منا, أي الذين يريدون إلغاء القانون, كانوا ينادون بذلك, ولا بأس من اتخاذ الموضوع ذريعة للتشهير بالسلطات المصرية في الداخل والخارج, بينما هم علي استعداد للقبول بعمليات تثقيب الحدود المصرية بالأنفاق, وتهريب السلاح والمخدرات والإرهابيين من خلالها, حتي ظهرت التفجيرات التي جرت في طابا وشرم الشيخ ودهب وكأنها نوع من الأفلام التليفزيونية المفبركة. أما العامل الثاني فهو أن صدور, أو تمديد, قانون الطوارئ هو شهادة علي أن المجتمع والدولة قد فشلا في مقاومة الإرهاب بوسائل أخري, أي في منع جماعة من المواطنين من ممارسة العنف والإرهاب باسم الدين الإسلامي. والمدهش أنه بقدر ما جري عن حق أحيانا وظلم في أحيان أخري من نقد للأجهزة الأمنية علي إصرارها لإبقاء واستخدام القانون, فإنه لم يحدث إطلاقا أن طرح السؤال لماذا كان هذا الموقف؟ ولا طرح السؤال عن الجهود التي تبذلها مؤسسات المجتمع الأخري من أحزاب ومجتمع مدني ومصادر إعلامية مختلفة لمقاومة الإرهاب. ولا يخفي علي أحد أن قضية الإرهاب تنبت في الأساس في القلوب والعقول, ولا يوجد لدي إرهابي ضغينة أو حقد شخصي علي فرد أو جماعة يجعله يذهب إلي قتلهم, ولكن لدي هذا الإرهابي عقيدة فاسدة تجعل قيامه بعمليات انتحارية, يسميها البعض استشهادية, مقدمة لخلاصه الذاتي ووصوله إلي الجنة, وإنقاذا للمجتمع من المعصية والذنب. كما لا يخفي علي كثير من المصريين أن جماعات منهم تنتشر في أفغانستان وإيران واليمن والسودان وبريطانيا والعديد من الدول الأوروبية والآسيوية تنتظر ساعة الانقضاض علي دول أخري حتي تحين ساعة غزو مصر, أو فتحها كما يقولون. ودون أدني شك فإن مسئولية عدم نجاحنا حتي الآن في معركة القلوب والعقول هي مسئولية جماعية مصرية, ومن يرد إلغاء قانون الطوارئ فعلا فعليه أن يحارب معركة الديمقراطية ومعها معركة الحرب علي الإرهاب. ولا يجوز أن يكون نصيب الجماعات السياسية من الحرب علي الإرهاب هو مجرد إصدار بيان خجول كلما حدثت حادثة إرهابية, بينما يجري تمجيد نفس العمل في بلدان أخري, وتأييد حمل جماعات وأحزاب للسلاح خارج سلطة الدولة, بل تأييد خلايا إرهابية داخل مصر تحت مسمي مد العون إلي غزة. والعامل الثالث هو أن خسارة معركة القلوب والعقول تعود في جانب منها إلي غزو فكري كاسح من مجموعة أفكار تري المجتمع المصري عاصيا إلي درجة تستوجب الوصاية عليه فيما يقرأ, ويسمع, ويشاهد; وما كانت محاولة منع نشر واحدة من روائع التراث العالمي مثل ألف ليلة وليلة إلا توطئة لكبح الفكر والتفكير بأكثر مما يمكن أن تفعله قوانين الطوارئ أو غيرها. ولا يحتاج المرء إلا استعادة تاريخ العقود القليلة الماضية لكي يجد موجات من الإرهاب الفكري والمعنوي التي تدفعنا إلي التساؤل عما سيكون عليه شكل البلاد, بما فيه شكل الإعلام, إذا ما نجح الإرهابيون, لا قدر الله, في تحقيق أهدافهم؟ والرابع هو أن قانون الطوارئ, أو مد حالة الطوارئ إذا شئنا الدقة, واستنادا إلي ما سبق ليس هو الطريقة الوحيدة لمواجهة الإرهاب. وبشكل عام فقد جرت التقاليد العالمية الآن علي فصل أمر الإرهاب في قانون خاص يسمح للدولة أن تمارس قدراتها لمواجهة الخطر المقيت, بينما تظل الحالة الطبيعية للدولة ممكنة, أو هكذا يكون الإدراك لها من جانب المواطنين, ومن جانب المجتمع الدولي أيضا. وبالنسبة لي شخصيا فقد وضعت فكرة عودة مصر إلي الحالة الطبيعية أي تلك التي تتجنب الأوضاع الاستثنائية- هدفا فكريا وسياسيا طرحته في كل الساحات السياسية والفكرية الممكنة. ولذلك كانت مطالبة الحكومة دائما بضرورة إصدار قانون لمكافحة الإرهاب, بالإضافة إلي تعبئة كل الموارد الوطنية الفكرية والمعنوية الممكنة, فهي السبيل إلي النصر علي الإرهاب, والوصول إلي الديمقراطية, والتخلص من الحالة الاستثنائية, والتقدم بوجه عام. كانت هذه هي العوامل التي استند إليها موقفي من قانون الطوارئ وتمديده, وللحق فقد شهد الأسبوعان الماضيان نقاشا خصبا حول القانون دار الكثير منه داخل أروقة الحزب الوطني الديمقراطي, ومجموعته البرلمانية, كما دار بعض منه في البرلمان وساحات الإعلام المختلفة. وفي هذا الحوار, طرح المؤيدون لقرار المد للقانون إيجابيات عديدة له. الأولي, أنه يوفر حماية للإنجازات التي تحققت في الدولة من التهديدات الناتجة عن مخاطر الإرهاب والاتجار في المخدرات, أي أن العمل بالقانون في هذه الحالة اضطراري لأن الحكومة لا تريد العيش في ظل ظروف استثنائية. فالتحديات الأمنية التي تواجهها مصر تحتم ذلك, خصوصا في ظل وجود بعض الجماعات التي تعارض توجهات الدولة لاسيما علي الصعيد الخارجي مثل الموقف من عملية السلام في الشرق الأوسط. وكان إلقاء القبض علي الخلية التابعة لحزب الله اللبناني خير مثال علي طبيعة وخطورة التحديات الأمنية التي تواجهها الدولة في الوقت الحالي. واللافت للانتباه في هذا السياق هو أن بعض المؤيدين لقرار المد يشبهونه بالقرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بإغلاق معتقل جوانتانامو والذي لم ينفذ بعد بسبب التعقيدات والمشكلات التي يواجهها. والثانية, أن مصر ليست حالة استثنائية علي مستوي العالم في تطبيق قانون الطوارئ. إذ إن ثمة دولا مثل إسرائيل تطبق القانون منذ تأسيسها, فيما استندت إليه بعض الدول الأخري في فترات مختلفة من تاريخها. فقد استخدمته تركيا علي سبيل المثال في الفترة ما بين عامي1971 و2002, والجزائر منذ عام1992, وسوريا منذ عام1963, وباكستان في الفترة ما بين عامي1977 و1985, ووفقا لبعض التقديرات فإن هناك17 دولة علي مستوي العالم استخدمت قانون الطوارئ منها فرنسا وألمانيا وماليزيا وسويسرا وإسبانيا وبريطانيا والأرجنتين وأستراليا وكندا. والثالثة, أن المد في هذه الحالة يعتبر مدا جزئيا وليس مدا دائما, فقد حصر استخدام القانون في حالتين: الإرهاب والمخدرات بما يمكن أن يجعله خطوة مهمة علي طريق عملية الإصلاح السياسي, لاسيما أن التعديلات الجديدة, وفقا لرؤية الحزب الوطني, تمنع استخدام حالة الطوارئ لاتخاذ خطوات تتصل بمراقبة الرسائل أيا كان نوعها أو مراقبة الصحف والمطبوعات, وكل وسائل التعبير والدعاية والإعلان ومصادرتها وتعطيلها وإغلاق أماكن طبعها, ومنع تحديد مواعيد وإغلاق المحال العامة والاستيلاء علي أي منقول أو عقار وإخلاء بعض المناطق وعزلها. والرابعة, أن تطبيق القانون في ثوبه الجديد سوف يؤدي إلي فرض قيود علي العديد من الإجراءات التي كانت مرتبطة بحالة الطوارئ, والتي نصت عليها البنود2 و3 و4 و6 في المادة الثالثة في قانون الطوارئ. فضلا عن أن التعديل يمثل سابقة نوعية, فهذه هي المرة الأولي التي تضاف فيها نصوص قانونية تحصر استخدام الطوارئ في مجالي مكافحة الإرهاب والاتجار بالمخدرات. وعلي الجانب الآخر, فإن المعارضين لمد قانون الطوارئ طرحوا حججا مقابلة تؤيد رفض قرار المد. وكانت الأولي منها أن هذا القرار يكرس فكرة تغليب الاعتبارات الأمنية علي الحريات العامة, وهو عكس ما يحدث في الخارج, حيث تعتمد العلاقة بين الدولة ومواطنيها علي نوع من التوافق القائم علي حماية حقوق الإنسان وصيانة الحريات التي يتمتع بها, وهو الآلية الأساسية لحفظ الأمن وحماية مصالح وإنجازات الدولة. والثانية, أن ذلك يمثل تراجعا عن الالتزام بالتعهدات التي قطعتها الحكومة, حيث تضمن البرنامج الانتخابي للرئيس حسني مبارك للانتخابات الرئاسية في عام2005 وعودا بوقف العمل بقانون الطوارئ وإعداد مشروع قانون لمكافحة الإرهاب, كما وعدت الحكومة في عام2008 أن يكون المد هو الأخير وهو ما لم يحدث, بشكل يفرض قيودا جديدة علي عملية الإصلاح السياسي. والثالثة, أن ثمة دولا عديدة في العالم مثل الهند تواجه تحديات أمنية في غاية الخطورة مثل العمليات الإرهابية التي وقعت في مدينة بومباي في نوفمبر عام2008, ومع ذلك لم تتجه إلي استخدام قانون للطوارئ للتعامل مع هذه التحديات. والرابعة, أن مصر تشهدا انخفاضا في العمليات الإرهابية واستقرارا في الحالة الأمنية, وهو ما يقلص من الأهمية والزخم الذي يمكن إضفاؤه علي قرار المد. والخامسة, أن القوانين الخاصة بمكافحة الاتجار في المخدرات كافية في هذا الإطار وبالتالي تنتفي الحاجة لاستمرار العمل بقانون الطوارئ, الذي يمثل, وفقا لهذه الرؤية, انتهاكا صريحا للحريات والحقوق التي نص عليها الدستور المصري. أما السادسة, فترتبط بنظرية المؤامرة, حيث يري أن إصرار الحكومة علي مد قانون الطوارئ يعود إلي رغبتها في إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة في ظله بما يسهل عليها التلاعب في نتائج الانتخابات. مثل هذا النقاش, أو الحوار, أو حتي الشجار إذا شئت, كانت له جوانبه اللافتة للنظر, حيث طرحت الحكومة القانون باعتباره كرها لها حتمته ظروف صعبة لم تقم بما يكفي لتذليلها; وفي الجانب المقابل فإن المعارضة في أغلبها عارضته لأنها تريد التخلص من أوضاع استثنائية لم تبذل جهدا كافيا كما أوضحنا للتخلص منها. ومع ذلك فقد قالت الأغلبية كلمتها استنادا إلي موقف وسطي يقوم علي سمتين: الأولي, أنه يحصر تطبيق حالة الطوارئ في مواجهة أخطار الإرهاب وتمويله وجلب وتصدير المواد المخدرة والاتجار فيها. والثانية, أنه مرتبط بإقرار قانون الإرهاب. أي أن القرار تأسس علي تمديد حالة الطوارئ لمدة عامين أو حتي صدور قانون الإرهاب أيهما أقرب, مع الالتزام بفتح حوار مجتمعي حول قانون الإرهاب فور الانتهاء منه مع منظمات المجتمع المدني والمجلس القومي لحقوق الإنسان. وقد تعهدت الحكومة بعدم استخدام التدابير الاستثنائية التي يوفرها القانون في استهداف حقوق المواطنين أو تقليص حرياتهم, مع ضرورة الالتزام بالضمانات التي قضي بها الدستور والقانون والاتفاقيات الدولية في الحالات التي تستلزم تطبيق القانون وأن يتم ذلك تحت رقابة السلطة القضائية. كما قدمت الحكومة مبررات عديدة لإقرار المد, أهمها عدم الانتهاء من قانون الإرهاب الذي يواجه تعقيدات خاصة بعملية التوازن بين الحفاظ علي أمن المواطنين وعدم المساس بالحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور, وهو ما يستدعي مزيدا من النقاش والدراسة ليتم التوافق علي كل البنود التي سيتضمنها القانون الجديد. ويبدو أيضا أن تأجيل صدور قانون الإرهاب يرجع إلي التباين حول مفهوم الإرهاب, وقد تم تشكيل لجنة داخل مجلس الشعب برئاسة الدكتور مفيد شهاب وزير الدولة للشئون القانونية والمجالس النيابية من مهامها تعريف معني الإرهاب ووضع البنود النهائية للقانون. كل ذلك يضع علي عاتق المصلحين وكل الذين يريدون لمصر التقدم والأمان والرفعة مجموعة من المهام التي تنهي حالة الطوارئ من الساحة المصرية وتضع البلاد علي طريق العيش الطبيعي الذي تعيشه الدول الأخري المتقدمة في العالم. والمهمة الأولي من هذه المهام هي أن تكون الحرب ضد الإرهاب, والأفكار التي يستند إليها مهمة المجتمع السياسي كله وليس الأجهزة الأمنية فقط. والثانية هي التأكد من أن التقدم والإصلاح الذي جري في قانون الطوارئ سوف يجري تنفيذه من خلال الإفراج عن المعتقلين دون محاكمة; ومنع الشطط في تطبيق القانون بحيث لا يمد يده لحالات ذات طبيعة سياسية أو تدخل في إطار حرية التعبير. والثالثة العمل علي إنجاز قانون مكافحة الإرهاب خلال الفصل التشريعي القادم دون إبطاء بحيث يحتوي علي المادتين المتبقيتين في القانون الحالي, ومن ثم يمكن وقف حالة الطوارئ التي تجعل البلاد تبدو كما لو كانت تعيش حالة استثنائية. والرابعة تقديم كل أشكال الدعم المادي والمعنوي للأجهزة الأمنية من قبل الموازنة العامة والمؤسسات السياسية والشعبية لكي تقوم بواجباتها الثقيلة دون عنت ودون توتر. والخامسة أنه لدي الحكومة فرصة لإثبات أن كل معارضيها علي خطأ عندما تدير معارك انتخابية نزيهة خلال المرحلة المقبلة, ولا بأس في هذه الحالة من اتخاذ إجراءات هي أيضا كره لها ولكثيرين تكفل منح المصداقية والحياد للمعارك الانتخابية كلها. لقد انتهت مؤقتا صفحة موضوع قانون الطوارئ, وبرغم الخلاف الشديد الذي جري حوله فإن الحصاد لا بأس به ديمقراطيا وأمنيا, وطوبي للمصلحين الذين يريدون تقدم الوطن, والحفاظ عليه في نفس الوقت!. [email protected]