إذا كان عام1979 هو العام الذي هيمنت فيه الأصوليات الدينية فماذا كان رد فعل عام1980 ؟ في مارس1980 اجتمع في باريس أربعون عضوا من مشاهير مفكري العرب لتأسيس حركة تنوير عربية. وكانت فكرة التأسيس هذه قد راودت أسرة تحرير مجلة الطليعة القاهرية في عام.1979 والمفارقة هنا أن ذلك الاجتماع التأسيسي كان هو الأول والأخير, أي أنه قد أصيب بالفشل. والسؤال اذن: لماذا فشل؟ وأجيب بسؤال: لماذا انعقد ذلك الاجتماع في باريس ولم ينعقد في بلد عربي خاصة أنه يدعو إلي حركة تنوير عربية؟ بنبرة تشاؤمية يمكن القول إن أسرة تحرير مجلة الطليعة لم تعثر علي بلد عربي يقبل استضافة مؤتمر عن التنوير. وبنبرة تفاؤلية يمكن القول إن اختيار باريس مردود إلي أنها عاصمة النور حيث بزغت فيها حركة تنويرية في القرن الثامن عشر من قبل فلاسفة التنوير من أمثال ديدرو ودالامبير وروسو وفولتير ومونتسكيو. أما أنا فمنحاز إلي النبرة التشاؤمية لأن التساؤل يظل قائما: لماذا لم تقبل الدول العربية استضافة مؤتمر التنوير؟ للجواب عن هذا التساؤل أستعين بحوار دار بين اليسار المصري وتوفيق الحكيم في يناير.1975 وفي ذلك الحوار كان رأيي أن أوروبا مرت بحركتين للتنوير: تحرير العقل والتزام العقل بتغيير الوضع القائم, أما الدول العربية ومن بينها مصر- فلم تمر بهاتين الحركتين. وقد وافق توفيق الحكيم علي هذا الرأي, ثم استطرد قائلا: لقد ارتددنا إلي الوراء من بعد العشرينيات والثلاثينيات بسبب الرجعية الدينية الخرافية التي لا تتفق مع جوهر الدين, ولكنها تتستر باسم الدين لتلغي دائما دور العقل. انظروا كمثال لمهرجان الملابس في الجامعة. إنهم يقولون إن هذا زي إسلامي وذاك زي غير إسلامي. وهنا تذكر توفيق الحكيم المقالات التي كان يكتبها في عام1939 بمناسبة صراعه مع السلطة الدينية. ومن هنا دعا إلي ضرورة نشر العلمانية في التفكير وفي المنهج العلمي. ولكن المفارقة أيضا أن ثمة دعوة قد نشأت في أمريكا تحث علي ضرورة مهاجمة الأصولية المسيحية وذلك بإعادة إحياء الدعوة إلي التنوير علي مستوي كوكب الأرض. ومعني ذلك أن أزمة التنوير لم تقف عند حد البلدان العربية بل تجاوزتها إلي بلدان كوكب الأرض. فإزاء تأسيس حزب الغالبية الأخلاقية في عام1979 والمعبر عن الأصولية المسيحية تأسست الأكاديمية الانسانية في عام1983 لاعتبارين: الاعتبار الأول مردود إلي الاحتفال بمرور خمسمائة عام علي محاكم التفتيش ومرور مائة وخمسين عاما علي محاكمة جاليليو لتأكيد حرية البحث في الحضارة الانسانية, وعلي الدفاع عن هذه الحرية وما يلازمها من إعلاء سلطان العقل والعلم ضد المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية التي تنشد فرض الرقابة عليها. والاعتبار الثاني مردود إلي مواجهة الأصوليات الدينية استنادا إلي مثل التنوير. والأكاديمية الانسانية مؤهلة لإنجاز هذين الاعتبارين لأنها تضم كبار الفلاسفة والعلماء. وقد انتخبوني لكي أكون عضوا بها في عام.1989 وبسبب الدعوة إلي التنوير لدي الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية التي كنت أشرف بتأسيسها ورئاستها في عام1978 دخلت هذه الجمعية في علاقة عضوية مع الأكاديمية الانسانية. وفي إطار هذه العلاقة عقد مؤتمران دوليان أحدهما في عام1992 بجامعة أوترخت بهولندا تحت عنوان تحديات للتنوير والآخر في القاهرة في عام1994 تحت عنوان ابن رشد والتنوير. التنوير اذن أصبح دعوة كوكبية بسبب شيوع الأصوليات الدينية المهددة للحضارة الانسانية. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال مصر في هذا الزمان فماذا تري؟ تري أصولية دينية مانعة من إعمال العقل في النص الديني الأمر الذي يمتنع معه النص الديني من مواكبة متطلبات العصر ويدفع قادة الأصوليات الدينية إلي استثمار العبارات الدينية لتحقيق غايات سياسية, وفي مقدمة هذه الغايات تفكيك الدولة ثم إعادة تركيبها بحيث تكون علي غرار الدولة الأصولية في طهران. المزيد من مقالات مراد وهبة