تزامن هبوط سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية مع تطبيق البنك المركزي المصري لنظام جديد لتحديد ذلك السعر الذي لم يستقر بعد عند نقطة توازن جديدة مما مثل مفاجأة للكثيرين الذين يعتقدون أن أدوات البنك المركزي كفيلة بوقف تدهور سعر صرف الجنيه خاصة بعد أن ظل السعر متماسكا لفترة تقرب من عامين وهو اعتقاد خاطئ لأن أدوات البنك المركزي تمكنه فقط من التعامل مع النتائج التي يفرزها الهيكل الاقتصادي القائم والسياسات الاقتصادية المتبعة وليس مع الأسباب الحقيقية لما أفرزته. يمثل استقرار سعر الصرف أحد الأهداف الرئيسية للبنك المركزي لتفادي شرور كثيرة تنجم عن انخفاضه, حيث يؤدي إلي ارتفاع أسعار السلع المستوردة سواء السلع تامة الصنع أو الوسيطة أو المواد الخام مما يؤدي بدوره إلي ارتفاع مستوي الأسعار العام أو ما يعرف بالتضخم المستورد وزيادة العجز بالموازنة العامة وزيادة حجم الدين العام ويدفع بعض المدخرين لتحويل مدخراتهم إلي العملات الأجنبية تفاديا لانخفاض القوة الشرائية للجنيه وأملا في تحقيق مكاسب رأسمالية ومن جهة أخري فإن المكاسب المتوقعة من انخفاض سعر العملة المحلية لا تتحقق في الحالة المصرية إلا بقدر يسير فنظريا يفترض أن يؤدي ارتفاع أسعار السلع الأجنبية إلي انخفاض الطلب عليها وبالتالي تقليل استيرادها ولكن ذلك لا يتحقق عمليا لضعف المرونة السعرية للطلب المحلي أي مدي استجابة ذلك الطلب للتغيرات في سعر السلع المستوردة وذلك لأن السلع المستوردة إما وسيطة لا غني عنها لإنتاج سلع تامة الصنع أو استهلاكية لا يوجد لها بديل محلي كبعض أنواع الأغذية الأساسية أو ترفيهية لا يتأثر مستهلكوها كثيرا بالسعر, كما أن المكسب المتمثل في زيادة الصادرات لانخفاض سعر السلع المنتجة محليا لا يتحقق إلا بالقدر اليسير لارتفاع نسبة المكون الأجنبي في السلع المنتجة مما يرفع تكلفة إنتاجها وكذلك لضعف الهيكل الإنتاجي وبالتالي عجزه عن تلبية زيادة الطلب في المدي القصير. تتمثل مشكلة سعر الصرف ببساطة في زيادة الطلب علي العملات الأجنبية علي عرضها فلا يعود تراجع قيمة الجنيه في عدم استخدام البنك المركزي لأدواته للدفاع عن قيمتة فأهم تلك الأدوات هو ضخ عملات أجنبية بالسوق لزيادة المعروض وبالتالي خفض أسعارها ولكن يشترط لإمكان استخدام البنك المركزي هذه الأداة توافر العملات الأجنبية لديه وهو ما تحقق عدة مرات نجح فيها البنك في منع تدهور سعر الصرف, ولكن هذه الأداة الأساسية أصبحت غير متوافرة حاليا بالقدر المطلوب نتيجة تراجع الإيرادات من العملات الأجنبية منذ الثورة مما أدي إلي السحب من الاحتياطيات الدولية التي وصلت إلي مستوي حرج لا يمكن النزول عنه وهو غطاء واردات ثلاثة أشهر. أصل المشكلة إذن هو ضعف قدرة الاقتصاد علي توليد إيرادات بالعملات الأجنبية تكفي لمواجهة المدفوعات بتلك العملات وتتسم بالاستقرار ولا تتأثر كثيرا بالصدمات الخارجية وكذلك ضعف الطاقات المتاحة لإنتاج سلع أساسية أهمها الغذاء مما يضطر الدولة لاستيرادها وأيضا اعتماد الكثير من الصناعات القائمة علي المدخلات المستوردة وضعف المكون المحلي بنسب متفاوتة تصل في بعض الأحيان إلي مجرد التعبئة ولا يتأتي حل هذه المشكلة إلا في الأجل الطويل فسوف تستغرق إعادة هيكلة الاقتصاد عدة سنوات يمكن خلالها إقامة صناعات جديدة يوجه إنتاجها للتصدير أو السوق المحلية وتعديل طرق إنتاج بعض الصناعات للاستغناء عن أو تقليل المدخلات المستوردة وزيادة الرقعة الزراعية, أما في الأجل القصير والمتوسط فتمثل زيادة إيرادات السياحة الجزء الأهم من الحل, فالسياحة هي القطاع الوحيد المكتمل البنية الأساسية ويمكنه استيعاب المزيد من السائحين دون أي استثمارات جديدة. ولكن هذه الحلول لن تفلح مع الظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد حاليا ففي المدي القصير يتطلب الأمر حلولا استثنائية تتمثل في تقليل المدفوعات بالعملات الأجنبية بتقليل الواردات لفترة مؤقتة بوضع موانع سعرية أي بفرض رسوم جمركية إضافية علي السلع المطلوب تقليل وارداتها, فإذا لم يحقق ذلك الهدف المطلوب فهناك خطوة أخري تتمثل في وضع موانع كمية أي حد أقصي للكميات المسموح باستيرادها من تلك السلع ويمكن تطبيق ذلك علي السلع الاستهلاكية تامة الصنع التي يمكن الاستغناء عن إضافة المزيد منها مؤقتا كالسيارات والأدوات الكهربائية, فهذه الأصناف وغيرها من السلع الاستهلاكية تستنزف نحو مليار دولار شهريا من العملات الأجنبية وهو ما يعني أن تطبيق هذا الإجراء لمدة سنة واحدة يمكنه توفير مبالغ يمكن أن تصل إلي نحو12 مليار دولار وهو ما يغني عن القرض المزمع مع صندوق النقد الدولي ويمكن الدولة من سداد أذون الخزانة بالعملات الأجنبية البالغ قيمتها ما يعادل ثمانية مليارات دولار تقريبا وكلها التزامات قصيرة الأجل تقلل من درجة السيولة المتاحة بتلك العملات, مع العلم بأن مثل هذه القيود المؤقتة علي الواردات تسمح بها اتفاقية منظمة التجارة الدولية للدول الموقعة عليها في حالة تعرض موازين مدفوعاتها للاضطراب وهو الحادث في مصر حاليا. المزيد من مقالات جمال وجدى