عضو "قيم البرلمان": الحوار الوطني فكرة ناجحة .. وتفعيل توصياته انتصار للديمقراطية    رئيس جامعة الأقصر يشارك باجتماع المجلس الأعلى للجامعات بالجامعة المصرية اليابانية للعلوم    متظاهرون إسرائيليون يغلقون شارع «أيالون» ويشعلون النار وسط الطريق    وزير الرياضة يهنئ الخماسي الحديث بالنتائج المتميزة بكأس العالم    اليوم عيد.. وزير الرياضة يشهد قرعة نهائيات دوري توتال انرجيز النسخة العاشرة    ضبط دقيق مهرب وسلع غير صالحة وسجائر مجهولة فى حملة تموينية بالإسكندرية    في ثالث أيام مهرجان الإسكندرية.. تفاعل كبير مع «شدة ممتدة» و «النداء الأخير»    التمساح سابقا.. مدينة الإسماعيلية تحتفل ب162 عاما على وضع حجر أساس إنشائها    لميس الحديدي: رئيسة جامعة كولومبيا المصرية تواجه مصيرا صعبا    قطارات السكة الحديد تغطي سيناء من القنطرة إلى بئر العبد.. خريطة المحطات    شرايين الحياة إلى سيناء    محافظ القاهرة: استمرار حملات إزالة التعديات والإشغالات بأحياء العاصمة    "مستحملش كلام أبوه".. تفاصيل سقوط شاب من أعلى منزل بالطالبية    مصر تواصل الجسر الجوى لإسقاط المساعدات على شمال غزة    تعليق ناري من أحمد موسى على مشاهد اعتقالات الطلاب في أمريكا    رامي جمال يحتفل بتصدر أغنية «بيكلموني» التريند في 3 دول عربية    عزيز الشافعي عن «أنا غلطان»: قصتها مبنية على تجربتي الشخصية (فيديو)    جامعة كفر الشيخ تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة    أمين صندوق «الأطباء» يعلن تفاصيل جهود تطوير أندية النقابة (تفاصيل)    افتتاح المدينة الطبية بجامعة عين شمس 2025    ما هي مواعيد غلق المحال والكافيهات بعد تطبيق التوقيت الصيفي؟    سمير فرج: مصر خاضت 4 معارك لتحرير سيناء.. آخرها من عامين    سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    «الحياة اليوم» يرصد حفل «حياة كريمة» لدعم الأسر الأولى بالرعاية في الغربية    حبست زوجها وقدّمت تنازلات للفن وتصدرت التريند.. ما لا تعرفة عن ميار الببلاوي    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    80 شاحنة من المساعدات الإنسانية تعبر من رفح إلى فلسطين (فيديو)    غدا.. إعادة إجراءات محاكمة متهم في قضية "رشوة آثار إمبابة"    أمل السيد.. حكاية مؤسِّسة أول مبادرة نسائية لتمكين المرأة البدوية في مطروح    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    طاقة نارية.. خبيرة أبراج تحذر أصحاب برج الأسد من هذا القرار    أنس جابر تواصل تألقها وتتأهل لثمن نهائي بطولة مدريد للتنس    بالصور.. مجموعة لأبرز السيارات النادرة بمئوية نادى السيارات والرحلات المصري    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    عاجل.. وزير الخارجية الأميركي يتوجه إلى السعودية والأردن وإسرائيل مطلع الأسبوع    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة| الأنابيب الكيني يفوز على مايو كاني الكاميروني    ليفربول يُعوّض فينورد الهولندي 11 مليون يورو بعد اتفاقه مع المدرب الجديد    النيابة تطلب تحريات إصابة سيدة إثر احتراق مسكنها في الإسكندرية    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    بلينكن في الصين.. ملفات شائكة تعكر صفو العلاقات بين واشنطن وبكين    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    ضبط عاطل يُنقب عن الآثار في الزيتون    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خالد بيبو: لست ناظر مدرسة «غرفة ملابس الأهلي محكومة لوحدها»    عمرو صبحي يكتب: نصائح لتفادي خوف المطبات الجوية اثناء السفر    أستاذ «اقتصاديات الصحة»: مصر خالية من شلل الأطفال بفضل حملات التطعيمات المستمرة    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في زمن الفتنة..
قناة السويس
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 02 - 2013

أرسل أرسطو رسالة إلي تلميذه الإسكندر الأكبر بعد فتوحاته في الشرق ينصحه فيها بأن يعامل اليونانيين كقائد, وأن يعامل الشرقيين معاملة السيد لأنهم بطبيعتهم قد اعتادوا السخرة ولا يتذمرون من الطاغية.. و..من الإسكندر لفردينان ديليسبس يا قلبي لا تحزن. فقد سار الأخير علي هدي النصيحة التاريخية الجائرة لتكتب جريدة ستاندارد البريطانية في19 ابريل1861 مقالا جاء فيه: علمنا من مصدر موثوق به أن عمال قناة السويس يقادون سيرا علي الأقدام من بلادهم في كافة أنحاء مصر إلي بورسعيد وقد ربط بعضهم إلي بعض كالجمال أو مثل قطعان العبيد في أفريقيا عندما يسوقهم تجار الرقيق إلي السفن المنتظرة لتوصيل طرود البشرية.. وترد جريدة شركة قناة السويس الفرنسية غير مستنكرة للنقد أو عابئة له بقولها: لا بأس في أن العمال الذين تجمعهم الشركة يذهبون إلي ساحات الحفر سيرا علي الأقدام, فهم أبناء بلد لا يحظي بطرق زراعية كثيرة, أو بخطوط حديدية منتشرة, وقطع المسافات سيرا علي الأقدام الحافية أمر مألوف للغاية في مصر.. و..تظل الأوامر تخرج من القصر بشحن العمال إلي مراكز التجميع في الصعيد والوجه البحري, ومن هناك إلي مراكز التجميع في الزقازيق, حيث يبدأ ربطهم بالحبال وسوقهم سيرا علي الأقدام تحت إرهاب السياط والسلاح إلي ساحات الحفر ليحصل كل منهم علي أجر يومي قرشان ونصف القرش في اليوم كما تقول الشركة وإن كان ما يحصله لا يتجاوز نصف قرش يدفع منه ثمن طعامه بعد مرور المرتب علي مطامع المقاولين وسماسرة الأنفار.. وعندما تفوح رائحة السخرة في بر مصر, توعز الشركة إلي رؤساء العمال الموالين لها بنفوذ الرشوة والإرهاب بتدوين العرائض النافية للسخرة في معاملة فلاحي الحفر, وبقيت شاهدة علي ما تم من ظلم عريضة وقعها27 منهم كانت ضمن الوثائق التي جمعها رينيه قطاوي بك مدير عام شركة كوم أمبو.. تقول: نشهد أن العمال قد جاءوا للعمل بمحض إرادتهم ورغبتهم, ومقادير الماء متوافرة لديهم بل تزيد علي حاجتهم, ويقدم إليهم كل يوم ما يحتاجونه من أطمعة وخبز يخصم ثمنها الزهيد للغاية من الأجور التي يستحقونها وتدفع لهم بانتظام, والعمل قائم علي أساس الرغبة والاختيار لا علي الرهبة أو الإجبار, وأن مستخدمي الشركة لا يوجهون إلي العمال أية إهانة وأنه لم يقع حادث وفاة أو حالة مرض في ساحات الحفر.. ويروي عرق المصريين قناة السويس قبل أن ترويها مياه البحرين, وترتفع الفؤوس وتهبط بآلية البشر المسير ليتردد غناء القهر:
روح يا زمان روح وخللينا بغلابتنا
احنا السبوعة وجت الأيام غلبتنا
وتؤكد صحيفة شركة قناة السويس أن الدليل علي حسن معاملة الفلاحين أنهم يغنون وسط العمل, ولا يدركون أنها أنات الألم التي تشد الأزر, وترسخ الصبر, وتحشد فتات القوة و..هيلا هوب هيلة!!
كان عدد العمال المسخرين في حفر قناة السويس20 ألفا يتغيرون كل شهر, وقد ترتب علي ذلك تأثر الزراعة في بر مصر, إذ بينما يكون20 ألف فلاح منكفئين في ساحات الحفر يكون هناك20 ألفا آخرين في طريق عودتهم إلي قراهم بعد انتهاء سخرة شهر الحفر, بينما يكون20 ألفا ثالثة يشدون الرحال إلي محفر السخرة في السويس ابتداء من الشهر المقبل, أي أن هناك شللا تاما في قطاع60 ألف فلاح مصري بعيدون عن أراضيهم, وقد حاولت الحكومة المصرية إرسال5 آلاف جندي قاربوا اتمام خدمتهم العسكرية للمشاركة في حفر القناة إلا أنهم رفضوا المهمة اللاإنسانية بمجرد مشاهدتهم أرض الواقع المرير, وعجز الضباط عن السيطرة عليهم عندما تجمعوا ساخطين للعودة إلي بلادهم بعد وقوع العديد من المصادمات مع المهندسين الفرنسيين المشرفين علي المشروع, ولولا دهاء ديليسبس وأوامره بألا يعاقب أحد من الجنود لانتشر خبر هروب العمال من القناة, ولذا اكتفي بعدها بالعمالة العاجزة عن إبداء تذمرها تحت السياط, والتي قد يتمكن بعضها من الهروب تحت جنح الليل, أو السقوط من طولها جوعا أو عطشا ومرضا لتنزف مصر أقوي شبابها ورجالها من سن16 إلي سن الأربعين الذين يدفنون من قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة حتي لا تنتشر الأوبئة وتموت أعداد أكثر لم تزل الأرض في حاجة إلي ضربات معاولهم.. ويكتب البريطاني بيرس بادجر في كتابه عن مصر أنه التقي بآلاف العمال المصريين, وكان حريصا علي سؤالهم فيما إذا كانوا قد قدموا للعمل للقناة بمحض إرادتهم فكانت جميع الإجابات كلمة سجلتها كل الأفواه وكتبها الإنجليزي بالحروف اللاتينية بأن الأمر كله قد تم بالزورBizzor!!.. واستمر حفر القناة.. واستمرت الأيدي الطاهرة المغلوبة علي أمرها ترتفع بالفؤوس وتهوي بها تفتح المجري.. آلافا بعد آلاف بعد آلاف, وساعة بعد ساعة, ويوما بعد يوم, وشهرا يجر بسلاسله شهرا, وعاما كأنه ألف عام يزحف متخاذلا إلي أعتاب عام.. ونملة تحفر بأقدامها في الصخر ليتسع الثقب إلي فجوة والفجوة إلي مجري والمجري إلي ملحمة!!
الملحمة التي رأي فيها المؤرخ جمال حمدان أمرا جللا: جاءت القناة أكبر عامل اختزالCatalyst في جغرافيا النقل الكوكبية, فقد أعادت توجيه القارات, ورجت القيم الجيوماتيكية, فبعملية جراحية جغرافية, صغيرة نسبيا, اختزلت قارة برمتها هي أفريقيا, وأسرت طريق الرأس وأعادت وضع الشرق العربي ومصر في قلب الدنيا وفي بؤرة الخريطة, ومن المحتمل أن عملا من أعمال الإنسان لم يؤثر علي علاقة الأمم بصورة أكثر منها عمقا, ومن الصعب تصور مثل هذا الإنجاز مرة أخري في حدود القدرة البشرية في تمكنه من تغيير أوضاع الطبيعة.. ومن خطورة ونتائج القناة أنها منذ شقت, وبالأخص منذ حل البخار محل الشراع الذي كانت تعاكسه رياح البحر الأحمر, أصبحت شريان المواصلات العالمية وعنق الزجاجة في الملاحة, وتحولت إلي قبلة كأنما الدنيا كلها علي ميعاد فيها.. باختصار أصبحت مركز الثقل في حركة العالم, والقارات معلقة إليها, وأبسط معني أنه جدد شباب موقع مصر الجغرافي وأعاد إلي الجسم المريض دورة الدم والحياة.. لقد أتت القناة هدية الموقع إلي مصر, وهدية مصر إلي العالم.. فكم أعطت القناة للعالم, وكم أعطي العالم لمصر؟!!... وقد يبدو طريفا أن مشروع قناة السويس قد بدأ بسبب سروال محمد علي الألباني الفضفاض, فقد كان في عام1802 مجرد ضابط صغير في الجيش التركي دعي إلي وليمة فاخرة في دار القنصلية الفرنسية أقامها ماتيو ديليسبس أول قنصل عام لفرنسا في مصر, وبعد انصراف المدعوين ظهر غياب عدد كبير من الملاعق والشوك والسكاكين الفضية التابعة للقنصلية, فحامت الشكوك علي الفور حول محمد علي وبخاصة لأن سرواله الواسع يساعد علي إخفاء المسروقات بين طياته, فأمر ديليسبس بإجراء تحقيق فوري أظهر إدانة شخص آخر غير محمد علي, ومن بعدها ظل القنصل يظهر التوقير المبالغ فيه له أمام الجميع, فما كان من محمد علي إلا أن يبادله بدوره تعظيما بتعظيم مما أنشأ رابطة وثيقة بينهما ارتفعت إلي مصاف الصداقة بين مصر وفرنسا بعد تولي محمد علي حكم البلاد, لكنه ظل يرفض الفكرة الفرنسية بمشروع قناة السويس بحجة ضرورة إشراف الحكومة المصرية علي تنفيذه وتمويله كلية كي تخلص القناة لوطنها قائلا: إني لو فتحت القناة لخلفت لمصر بوسفورا كبوسفور الدولة العلية( تركيا) وكما أن البوسفور تسبب في مشاكلها فإن بلادي المطموع فيها أصلا سوف تصبح بسبب قناتها مسرحا للمطامع السيئة.. ورغم أن قناة السويس كانت أحد الأهداف الاستراتيجية للحملة الفرنسية إلا أن المهندسين المصاحبين لها بعد قيامهم لمدة عام بدراسة مستفيضة علي أرض الطبيعة قدموا لنابليون تقريرهم مع نهاية عام1799 باستحالة حفر تلك القناة لاعتقادهم أن مستوي مياه البحر الأحمر يرتفع عن مستوي المتوسط ب33 قدما.. وكانت غلطة أجلت الدوشة!.. ومن قبل الحملة الفرنسية التي أخفقت في حساباتها فقد كانت هناك قناة تعود إلي عصر الفراعنة عندما تم الاتصال بين البحرين الأبيض والأحمر بواسطة النيل, تتفرع منه ترعة الفراعنة القديمة وتسير بمحاذاة وادي الطميلات, ثم تنثني إلي الجنوب مخترقة البحيرات المرة حتي تصب في البحر الأحمر.
وعلي غرار محمد علي سار خلفاؤه إبراهيم وعباس في رفض حفر القناة.. إبراهيم الذي كان يعد نفسه مصريا إلي حد أن أحد جنوده خاطبه بالحرية التي كان إبراهيم يشجع عليها رجاله قائلا له: كيف تطعن الأتراك في كلامك وأنت منهم؟ فأجابه إبراهيم: أنا لست تركيا فإني جئت إلي مصر مع أبي من قولة طفلا ومنذ ذلك الحين قد مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته مصريا.. ورغم فتوحاته وانتصاراته فقد حافظ علي احترامه وإجلاله لأبيه إلي حد لم يكن يسمح لنفسه بالتدخين في حضرته, ولم تزد مدة حكمه علي السنة ونصف السنة من ابريل1847 حتي نوفمبر1848, وكانت وفاته صدمة هائلة علي محمد علي الأب المريض الحزين الذي أنشأ أمة وأسس دولة وحقق لها استقلالها وأتم لها وحدتها وشيد دعائم نهضتها وحضارتها.. وتتصدر الوقائع المصرية في نهاية جمادي الأخري سنة1252 أمرا وجهه محمد علي إلي مفتش عموم الفارويقات جاء فيه: لقد اطلعت علي شرحكم المسطر بشأن العمال والمهمات اللازمة لفارويقة( ملوي) وعلم حبس الأشخاص الواردين بدون ضامن. ألم أقل لك مرارا إن أولياء نعمتي اثنان هما: السلطان محمود في تركيا والآخر الفلاح المصري. وإن قصدي هنا عدم النظر إلي الفلاح بعين العداوة, وإزالة ذلك من الوجود لأنه عطانا ومنحنا هذا الشرف الذي نحن فيه هو من وجوههم أي بسببهم فعليه ولكون أن الفلاح ولي نعم الجميع فلابد من النظر إلي ما فيه رفاهيته وزيادة يوميات أولئك الشغالين, ويلزم بوصوله عمل صورة مستحسنة لصرف أجورهم ليكون موجبا لرفاهيتهم وتشويقهم للمصلحة, إذ بذلك تعم المنفعة ويسر الجميع ويستوجب حضورهم للأشغال بانشراح قلب وبعد تقرير ما يلزم لما ذكر يتم عرض الكيفية لطرفنا... و..من بعد إبراهيم يأتي عباس الذي يكره الأجانب ويتحاشي إعطاءهم أية امتيازات, ولم يمد يده للاستدانة منهم وكان يعمل علي سد عجز الميزانية دون اللجوء إلي القروض, واكتفي بإصلاح الطريق بين القاهرة والسويس, ومات مقتولا في قصره المعزول في مدينة طنطا في14 يوليه1854 بتحريض من عمته نازلي هانم.. وما كاد سعيد يتبوأ الأريكة حتي يرقص فردينان ديليسبس فرحا فقد أوشك علي تحقيق حلمه بحفر القناة فأرسل يهنئ سعيد صديق الطفولة البدين عاشق المكرونة الذي كان يهرع إلي القنصلية الفرنسية أيام كان قنصلها والده ماتيو ديليسبس ليلتهم أطباق الاسباكيتي الشهية معه لتنمو بينهما أواصر صداقة لم تنقطع إلا بعودة القنصل الفرنسي لدياره.. ويكتب فردينان في مذكراته: لقد استقبلني محمد سعيد باشا بمودة بالغة..
وتتكرر لقاءات الرجلين ويرسل سعيد لضيفه الفرنسي فرسا عربيا أصيلا اسمه عنيزة, وأثناء مناورات الجيش ومن حولهما الجنرالات أراد فردينان إظهار قدراته في الفروسية فأطلق عنان عنيزة, وما أن وصل إلي حاجز الصخر حتي قفز من فوقه بمهارة أثارت الجميع, واستمر في انطلاقه ليصل إلي حيز الخيام ومنها يعود لموقع الأمير ورجاله ليجدهم في حالة نشوة من جرأة الفارس وقوة الحصان وجمال الحركة, وهنا لمعت الشرارة في رأس الفرنسي فقد أدرك أن الوقت قد حان لمصارحة الأمير بمشروع حياته, حيث يقول عن تلك اللحظة الحاسمة في مذكراته: كان الباشا مغتبطا فأخذني من يدي واحتفظ بها في يده برهة ثم أجلسني بجواره وكنا وحدنا وفتحة الخيمة تسمح بمشاهدة شمس الغروب ونسمة الجنوب تلثم جباهنا.. وساعتها عرضت المشروع دون دخول في التفاصيل, واستمع سعيد باهتمام, ورجوته أن يتفضل بإبداء شكوكه فذكر بذكاء كبير بعض الاعتراضات التي كان لدي إجابات مرضية عليها فقال: إنني مقتنع وموافق ولسوف نشغل أنفسنا عبر رحلتنا ببحث وسائل التنفيذ ويمكنك الاعتماد علي.. ويصدر مرسوم الأمير سعيد بشأن مشروع حفر قناة السويس بديباجة هي أقرب إلي العشق منها إلي الصداقة والود حيث قال: إلي صديقي المخلص الكريم المنبت, العظيم الخصال, العالي المقام, الفارس الهمام المسيو فردينان ديليسبس الذي خولناه بموجب هذه الوثيقة السلطة التامة لتأليف شركة عامة لحفر برزخ السويس واستغلال القناة التي ستصل بين البحرين الأبيض والأحمر.. وبموجب المرسوم قدم سعيد إلي هذه الشركة جميع الأراضي التي تمر بها القناة والتي علي جانبيها مجانا, مع إعفائها من كافة الرسوم والعوايد, ومنحها حق استخراج ما يلزمها من مواد البناء من المحاجر الأميرية مجانا, وانفرادها بدخل القناة لمدة99 عاما.. كما منح سعيد الشركة الفرنسية حق حفر ترعة مياه حلوة من فرع النيل إلي منطقة القناة للارتواء منها دون مقابل, بل وأضاف أنه إذا أراد أصحاب الأطيان المجاورة ري أراضيهم فعليهم أن يدفعوا ثمن المياه للشركة الأجنبية.. و..كانت المادة العاشرة من المرسوم اللامعقول تقول: توفر الحكومة المصرية للشركة كل القفف اللازمة لنقل الأتربة ومواد البناء, وكذلك البارود اللازم لاستغلال المناجم.
ويرسل سعيد إلي ديليسبس يستدعيه من منطقة الحفر بالسويس علي عجل لاطلاعه علي رسالة من الباب العالي يخبره فيها بامتعاضه من استمراره في مشروع القناة دون الحصول علي الموافقة النهائية للسلطان, فما كان من ديليسبس إلا أن نصح الأمير المتخوف بأن يسير علي نهج سياسة رؤساء المجالس المحلية في إسبانيا عندما تردهم أوامر ملكية عليا يرون أنها تتعارض مع مصلحة البلدة التي تقع تحت لوائهم فكانوا يقولون بالإسبانيةSeacutapero أي نحترمه لكننا لا ننفذه, وارتاح سعيد للنصيحة, أما ديليسبس فقد عاد بعدها إلي السويس لمواصلة العمل, ولم يكن الاثنان يعلمان أنه آخر لقاء بينهما, فقد سافر سعيد بعدها إلي أوروبا للاستشفاء من مرض عضال ليعود إلي الإسكندرية وقد تدهورت صحته إلي حد الرحيل في18 يناير1863 وله من العمر42 عاما ليدفن بمسجد النبي دانيال بالإسكندرية بعد أن حكم مصر8 أعوام و9 أشهر و6 أيام.. ليأتي من بعده إسماعيل الذي أضاف إلي اسمه لقب الخديو وأصله صفة مشتقة من كلمة خيفا وهي اسم فارسي يعني الرباني أو الإلهي, ولم يفز إسماعيل باللقب بالمجان.. ويندفع في البذخ وفي غزوات لا طائل من ورائها, وفي مشاريع وهمية كثيرة ليقفز الدين القومي في زمن قليل من ثلاثة ملايين إلي المائة مليون, ومع اقتراب افتتاح القناة في17 نوفمبر1876 تدور عجلة الإسراف بجنون لإقامة مهرجانات واحتفالات تستمر4 أيام, وتسلط أنوار الماغنسيوم البراقة علي الأهرامات, ويستدعي من فرنسا وإيطاليا500 طباخ و1000 سفرجي لتقديم الأطعمة لستة آلاف مدعو بينهم أباطرة وملوك وأمراء ونبلاء وسفراء إلي جانب مراسلي الصحف الأجنبية, في الوقت الذي تم فيه تجاهل دعوة السلطان التركي.. وقد استغل ديليسبس علاقته ببلاط الإمبراطور نابليون الثالث وصلته العائلية بالإمبراطورة أوجيني ابنة خالته فدعاها لتكون علي رأس المدعوين, وحرص ديليسبس علي أن تمثل الأديان السماوية الثلاثة في الحفل, وكان إسماعيل قد أقام3 سرادقات كبيرة خصص الذي في الوسط لملوك أوروبا وأمرائها, والثاني علي اليمين لعلماء الدين الإسلامي وعلي رأسهم شيخ الأزهر الشيخ مصطفي السقا ومفتي الديار الشيخ محمد المهدي العباسي, أما السرادق الثالث فخصص لرجال الدين المسيحي يتقدمهم الرسول البابوي الذي افتتح خطابه بدعاء لشيخ الأزهر, وكان حضور الأمير عبدالقادر الجزائري بملابسه البيضاء قد أضفي علي الحفل رهبة خاصة.. وكان وراء اهتمام ديليسبس بوجود ممثلي الأديان في الحفل امتدادا لرؤية نابليون بونابرت السابقة التي اكتشفت قوة الوازع الديني لدي المصريين, سواء كانوا أقباطا أم مسلمين, فحاول هو بدوره اللعب بنفس الورقة فقام بتوطيد علاقته بالأنبا كيرلس الرابع بطريرك الأقباط, وعلي نفس الدرجة بذل نشاطا واضحا في الدوائر الإسلامية, فكان يؤكد علي تشييده مسجدا في كل ساحة من ساحات الحفر, ويردد كيف جاء ذكر مشروع قناة السويس في الإنجيل والقرآن, وكان يستشهد بكل آية تحدثت عن البرزخ أو المياه أو البحر ليثبت للمسلمين أن القرآن قد حثهم علي حفر قناة السويس امتثالا لقوله تعالي: مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان. فبأي آلاء ربكما تكذبان, ولم تقتصر حملته الدعائية علي ذلك, بل ذهب إلي أصحاب الفكر والقلم فأقنع رفاعة رافع الطهطاوي بأن يؤيد المشروع, وعندما زكي رفاعة أحد أئمة المساجد قام ديليسبس بتعيينه علي الفور إماما للمسجد شمالي بحيرة التمساح براتب125 فرنك, وقد قام رفاعة بنظم قصيدتين مدح للمشروع قام الشاعر الفرنسي اللورد بيرون بترجمتهما للفرنسية.
وكان إسماعيل قد أراد في بداية عهده أن يلغي من عقد شركة القناة البند الذي يلزم مصر بتوريد العمال للحفر بالسخرة, وظلت الشركة تماطل لمدة5 سنوات ثم أعلنت رضوخها الظاهري, وتحت ضغط الإنجليز طالب الخديو بإلغاء البند الخاص بالترعة الحلوة مع إلغاء حق الشركة في الأراضي الواقعة علي ضفتيها, وتظاهرت الشركة بالموافقة أيضا.. وفجأة وجدت مصر نفسها مطالبة بالتعويضات عما سبق, فإلغاء السخرة يكلف38 مليون فرنك, والتعويض عن الترعة10 ملايين, وثمن ضفتي الترعة30 مليون أخري, ولم تكتف الشركة الناهبة بهذا بل قالت إنها لو أتمت الترعة فإنها كانت ستبيع المياه للمزارعين علي الضفتين, وكانت ستأخذ رسوما من المراكب التي سوف تستخدمها, وقدرت كل ذلك بمبلغ6 ملايين, بالإضافة إلي أن هذه الترعة كان سينمو بها السمك وهو مورد خصب خسرته أيضا.. وقد بلغ مجموع التعويضات84 مليون فرنك رفضها إسماعيل ثم قبل التحكيم أمام إمبراطور فرنسا نابليون الثالث الذي أقر التعويضات, ولم يكن أمام مصر سوي الرضوخ ليشهر الخديو إسماعيل إفلاسه وترهن مديريات بأكملها مثل المنوفية والشرقية والجيزة ويتم الاستغناء عن مئات الموظفين لضغط المصروفات, وفي فبراير1879 وحده أحيل إلي الاستيداع2500 ضابط, ودخل الوزارة المصرية وزير فرنسي للأشغال ووزير إنجليزي للمالية!!
وظن ديليسبس أن باستطاعته تكرار تجربة قناة السويس بملاحقها من النصب والاحتيال والابتزاز علي الجانب الآخر من العالم.. في بنما.. فقدم اقتراحه في المؤتمر الجغرافي الدولي الذي عقد في باريس عام1879 حول إمكانية حفر قناة لربط المحيطين الأطلنطي والباسيفيكي, وسارع بتكوين شركة لهذا الغرض مستثمرا النجاح الذي حققه في قناة السويس, لكن الأمور اختلفت تماما هذه المرة, فليس في بنما من هو في غفلة ومن يضحك علي عقله بسبب عقدة الخواجة أمثال سعيد وإسماعيل, وانتهي الأمر بتصفية الشركة لتجري الحكومة الفرنسية تحقيقا رسميا حول تجاوز ديليسبس وولده شارل لتقدمهما إلي المحاكمة بتهمة التدليس والتبديد وصدر ضد كل منهما حكما بالسجن لمدة5 سنوات, وفي الطعن ألغي الحكم وأعيدت المحاكمة لوقوع خطأ في الإجراءات, وعندما حان موعد المحاكمة كان فردينان قد مات لتسقط الدعوي ضده ويسجن شارل وحده, وقد ثبت للمحكمة استخدام فردينان الرشوة لشراء ذمم أكثر من مسئول وعضو برلمان وعمدة ووزير مما أثار فضيحة لوثت تاريخ الجمهورية الثالثة بفرنسا.. رحل ديليسبس في7 ديسمبر1894 عن عمر يناهز89 عاما وكان قد تزوج وعمره64 عاما شابة في الواحدة والعشرين هيلين دي براجار التي أنجبت له ذرية بلغت12 ابنا وابنة.. مات مهندس التدليس بعدما وضعه المصريون في خانة الريبة, والفرنسيون في مربع الغضب, والأتراك في مهبط التشفي, وأسقط البورسعيديون تمثاله من فوق شط القناة لينكفئ علي وجهه مكسور الأنف منكس الجبهة في مخزن تحت السلم, ولم يأت له ذكر إلا بمثابة الكود الذي استخدمه جمال عبدالناصر وسط خطاب تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية لينتفض الرجال الأبطال لحظة سماع الاسم للاستيلاء علي المراكز الحيوية بالقناة وشركتها.. وترتفع ألحان السمسمية.... عادت قناة السويس التي استغرقت في حفرها10 سنوات ليتم بيع أسهم مصر فيها في10 أيام.. عادت القناة التي مات فيها تحت الانهيارات الرملية في سنين حفرها ما يزيد علي المائة ألف مصري دون دفع تعويض عنهم أو جزاء.. عادت لنا و.. ليتها تبقي لنا!!
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.