علي أقل تقدير استطاعت جماعة إرهابية قتل37 رهينة من جنسيات مختلفة تعمل في مجمع للغاز الطبيعي في جنوبالجزائر, وأضيف إلي هذا العدد خمسة آخرون أو أكثر مفقودون حتي الآن ومن بين القتلي خمسة أمريكيين يعملون معهم. وفي هذا المجمع790 عاملا من بينهم أفراد من فرنسا وكولومبيا واليابان وماليزيا والنرويج والفلبين ورومانيا والمملكة المتحدة. بدأت العمليات الإرهابية يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي بهجوم علي المجمع بعربات مسلحة تحمل كميات كبيرة من المفرقعات, وبعد أن سيطر المهاجمون علي المكان حاول الجيش الجزائري حل الأزمة في محاولات متكررة إلا أن المواجهة انتهت بنهاية مأساوية قتل فيها أعداد كبيرة من الرهائن برغم تدخلات من أطراف عدة لحل هذه المعضلة باءت معظمها بالفشل ومن بينهم أفراد من النرويج والمملكة المتحدة. ويعتقد أن هؤلاء الإرهابيين قد جاءوا من الداخل في مالي ومن ليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا, وأنهم تدربوا في معسكرات عبر الحدود في مالي بعد أن سيطرت جماعات مسلحة علي مناطق في شمال البلاد في شهر مارس2012, وبعضها آتية من ليبيا قبل وصولهم إلي الجزائر. وقد تلازم مع هذه العمليات صدي احتجاجات من مجموعات إسلامية مختلفة في دول عربية ضد فرنسا ودورها في تلك المواجهات الدموية. لو نظرنا إلي خريطة جمهورية' مالي' لوجدنا أنها فصلت بافتعال من فترة الاستعمار الغربي بطريقة هندسية عجيبة, فهي جارة للجزائر في الشمال, والنيجر في الشرق, وبوركينافاسو وساحل العاج في الجنوب, وغينيا في الجنوب والغرب, والسنغال وموريتانيا في الغرب, ومساحتها حوالي1240000 كيلومتر مربع, وعدد سكانها14.5 مليون, وعاصمتها باماكو. وقد وقعت تحت السيطرة الفرنسية لسنوات طويلة, وحظيت بالاستقلال مع السنغال في1960 تحت مسمي اتحاد مالي انسحبت منه السنغال بعد ذلك. وعقب انقلاب1991 كتبت مالي دستورا جديدا جعل منها دولة ديمقراطية يحكمها نظام متعدد الأحزاب. منذ16 يناير2012 قامت مجموعة متمردة ضد الحكومة المالية تطالب باستقلال رقعة في شمال الدولة ومنحهم استقلالا ذاتيا في منطقة الأزاواد لجعلها دولة لشعب الطوارق, في حين أن الجماعات السلفية والقاعدة في المنطقة تنظر إلي مثل هذه المواضيع من منظور واحد في مواجهة الغرب, وأن تدخل فرنسا في المنطقة هو عودة إلي الفترة الاستعمارية. وفي22 مارس2012 أطيح برئيس الجمهورية قبل شهر واحد من الانتخابات الرئاسية, وسيطر علي الموقف بعد ذلك مجموعة عسكرية أطلقت علي نفسها اللجنة القومية لاستعادة الديمقراطية التي سيطرت علي الموقف, وعلقت الدستور المالي, وتمت السيطرة علي البلاد بمجموعة من المتمردين العسكريين سوف يحكمون أكبر من ثلاث مدن في الدولة وهي: كيدالKidal, وجايوGao, وتمبوكتوTimbukto. ودعمت الحركة الانقلابية بمجموعة إسلامية باسم أنصار الدين دعت إلي تطبيق الشريعة. وبعد ذلك غيرت اللجنة القومية لاستعادة الديمقراطية موقفها, ووجهت هجومها ضد جماعات إسلامية جهادية أخري مثل جماعة التوحيد في غرب إفريقيا, وفقدت اللجنة القومية سيطرتها علي شمال مالي في17 يوليو.2012 وفي11 فبراير2013 أعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند موافقته علي دعم حكومة مالي, وأن القوات العسكرية الفرنسية سوف تستمر في دعمها لمالي. تواجه مالي الآن أكثر من أزمة واحدة في نفس الوقت بعد أن تعرضت الدولة إلي العديد من الانشقاقات ومعظمها ناتج من مواقف جماعات جهادية وعلي رأسها إقامة دولة الطوارق. كما تواجه الدولة أزمات طعام, وأزمة اقتصاد بوجه عام, وعدم وجود رئيس منتخب علي رأس الدولة, وكذا ضعفها في السيطرة علي العسكريين. وفي10 يناير2013 سيطرت القوي الإسلامية علي مدينة كونا الإستراتيجية علي بعد600 كم من العاصمة. وبعد ذلك قام الجيش الفرنسي بتفعيل العملية سيرفال وبذلك تدخل رسميا في العملية العسكرية. وتستخدم هذه العمليات طائرات هليكوبتر وطائرات ميراج هجومية طراز ميراج 2000 د. وقد تم حتي الآن القضاء علي اقصاء العديد من الأطراف السياسية المناوئة للدولة, وأعلن القائد الفرنسي في هذه العملية إدوارد جولود أن الجماعات الإسلامية انسحبت من كونا, كما تمت مهاجمة أعداد من العربات العسكرية, وفي المقابل سقطت طائرة فرنسية هليكوبتر خلال العمليات. وفي15 يناير2013 أعلن وزير الدفاع الفرنسي أن الجيش المالي حتي الآن لم يعد مسيطرا علي كونا ولم يستردها من المتمردين, لكنه أعلن بعد ذلك استردادها هي ومدينة ديابلي. ومن الواضح أن الضرب الجوي سوف يستمر ضد هذه الجماعات حتي يتم القضاء عليها تماما. وقد أعلنت حكومة مالي مد فترة الطوارئ إلي ثلاثة أشهر قادمة. لم تقدم الدول العربية دعما للقوي المنتخبة في مالي, ولم تنتقد الجماعات الانفصالية الجهادية التي سوف تكون بسياستها قادرة علي تمزيق الدولة المالية وجعلها تحت سيطرة الجماعات الإرهابية ومدي تدخلها في الدول الأخري مثل الجزائر. وفي الحقيقة لا يمكن تجاهل ما حدث من مجزرة لعدد كبير من العاملين المدنيين في داخل المجمع الصناعي داخل الجزائر بالقرب من الحدود مع مالي. وفي نفس الوقت دفعت قوات الطيران الكندية الجوية بطائرات نقل سي 17 إلي مالي, وقدمت إلي كثير من الدول مثل الدنمرك وبلجيكا دعما من الجيش بمزيد من الطائرات ومن بينها طائرة للدعم الطبي بأطقمها الطبية الكاملة. وقد قررت الحكومة الفرنسية الدفع بعدد2000 جندي إلي مالي لمساعدة الحكومة المالية ومنع الزحف الإرهابي من الشمال إلي الجنوب. وهناك توجه أن تتبني دول الجماعة الاقتصادية لدول الغرب الإفريقيةECOWAS التعجيل بنشر هذه القوة وعددها قد يصل إلي3000 جندي في هذه المنطقة وبموافقة الدولة المالية. وهناك اتجاه لطلب قوات من ألمانيا لنشرها في مالي حتي تستقر الأحوال هناك. كما سوف تبعث نيجيريا1200 جندي علي أن يرسل في البداية50 جنديا في البداية. لاشك أن الموضوع ليس من السهل فهمه واستيعابه بسهولة, فعناصره متداخلة بين الداخل والخارج, كما أن مكوناته هشة قابلة للانقسام في كل لحظة. ومالي دولة ديمقراطية, ولها رئيس منتخب, لكن في الحالتين يكفي لمجموعة مسلحة أن تسقط البرلمان في لحظة, وتتخلص من الرئيس في طرفة عين, وأن تترك لبعض القوي الشعبية أن تتبني مشروعات انفصالية كما يحدث أحيانا في مصر عند الحديث عن النوبة أو سيناء بدعوات مفتعلة. وكما هو ظاهر في حالة مالي أن كثيرا من الدول ذات النفوذ مثل روسيا وكندا, بالإضافة إلي دول أخري, كانت تعرض مساعدة في هزيمة المتطرفين الإسلاميين خاصة ذات العلاقة بتنظيم القاعدة. وكل ما يمكن عمله الآن في مالي هو تكرار لدول جغرافيتها وبيئاتها ومستوي معيشتها تشجع علي انتشار تلك الجماعات المتطرفة وأفكارها المضادة للاستقرار والأمن, وغير المرتبطة مع العالم وما يجري فيه من تحولات مستقبلية ثورية. ومثل هذه الجماعات الهامشية الموجودة في مالي واليمن وغيرهما في دول أخري المنتشرة مثل جماعة الأزاواد البعيدة عن مشروع التطور الناضج في مالي وغيرها في بلاد أخري. ولاشك أن تجاهل نقاط الضعف الناشئة من العوامل الجغرافية والتاريخية وعدم علاجها وتقويتها يمكن أن تؤدي في النهاية إلي أوضاع تغري بالانفصال عن الآخر أو التصادم معه في النهاية.