في ذكري المولد النبوي الشريف, أصدر الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي رئيس قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة, دراسة حديثة حول وثيقة المدينةالمنورة ودورها في صياغة اول دستور في الإسلام, كيف قبل النبي صلي الله عليه وسلم التعدد في المدينة وتعايش معه, فجمع بين المسلمين واليهود والمشركين من أهل المدينة وجعلهم كلهم يدا واحدة يتناصرون فيما بينهم, وكيف تعامل مع الإثنيات الموجودة في المدينة من قبليات وعصبيات وديانات مختلفة, البعض يتخيل خطأ أن الإسلام يكره الآخر ويرفضه ولا يتعايش معه, فالحديث عن وثيقة المدينة يدحض كل تخوفات العلمانيين والليبراليين والنصاري من الدستور الجديد أو التعايش مع النموذج الإسلامي, حيث إن الإسلام هو صاحب حضارة عرفت الدستور ووضعت وثيقة دستورية سطرها النبي صلي الله عليه وسلم فيما يسمي بوثيقة المدينة, وقد كتب الدكتور محمد عبد الشرقاوي, أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بدار العلوم القاهرة, تحليلا للوثيقة في مؤتمر دولي في جامعة الفاتح بإسطنبول حول التعايش في الحضارة الإسلامية.. تفسيرات معاصرة, وفي ذكري المولد النبوي يعيد الدكتور الشرقاوي قراءة الدستور النبوي في هذا الحوار.. ماذا عن دور الأنبياء والرسل والمصلحين في إرساء قيم التعايش؟ لقد أسهم الأنبياء والرسل, وكثير من الفلاسفة والمصلحين والقادة في العمل علي توجيه الناس إلي النعمة أو المنحة الكائنة في التعدد مثل الثراء والإشباع.. لقد وضع هؤلاء مبادئ و أسسا وقواعد وقيما تمكن الناس من العيش المشترك مع المختلفين معهم عرقيا أو دينيا أو ثقافيا. وأولي هذه القيم: الاعتراف بحق الآخر المختلف في الوجود, ثم القبول بوجوده, ثم التعرف عليه والتعارف معه أي: التعاون والتناصر والتكامل رغم الاختلاف! ولقد وجه الإسلام الناس إلي وحدة أصلهم, وأن تعدديتهم ضرورة لتعارفهم وتكاملهم, فكيف يتنكبون الصراط ويحيلون تعدديتهم إلي سبب لبؤسهم وصراعهم؟! قال تعالي: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير( سورة الحجرات, آية13) وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم في خطبته الجامعة في حجة الوداع: يا أيها الناس, ألا إن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, ألا لا فضل لعربي علي عجمي, ولا لعجمي علي عربي ولا لأحمر علي أسود ولا لأسود علي أحمر إلا بالتقوي, ألا هل بلغت؟!.( مسند أحمد22391). هل تحدثت وثيقة المدينة عن العيش المشترك وقبول الآخر؟ أري أن( وثيقة المدينة) التي وضعها رسول الله- صلي الله عليه وسلم وقد حرص علي تسطيرها وكتابتها قد أسست للعيش المشترك بين مواطني( دولة المدينة) الناشئة التي أقامها الرسول صلي الله عليه وسلم, وتولي إدارة شؤونها وقيادتها; فبعد هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم إلي يثرب, غير اسمها إلي( المدينة) وآخي بين المهاجرين والأنصار علي اختلاف قبائلهم وتعدد عشائرهم ثم أقام دولة مستقلة عن النفوذ الأجنبي الروماني والفارسي والحبشي- في المدينة, دولة لها إقليم جغرافي معلوم محدد, ويتكون مواطنو هذه الدولة من المسلمين( المهاجرين والأنصار) ومن اليهود( علي تعدد قبائلهم وعشائرهم ومن بعض المشركين), وهذا يعني أن أديان وعقائد هؤلاء المواطنين في الدولة الوليدة متعددة وأن قبائلهم( أعراقهم) متنوعة وأن ثقافاتهم متفاوتة, ومن هنا فقد جاءت وثيقة المدينة الدستورية لتعلن أسس ومبادئ حكم الدولة, وواجبات مواطنيها, والعلاقة بينهم وبين رئاسة الدولة متمثلة في الرسول صلي الله عليه وسلم- وكل ما لهم وما عليهم من حقوق وواجبات دستورية. ما هي مبادئ وقيم التعايش التي أرستها وثيقة المدينة؟ تضمنت الوثيقة قيم ومبادئ التعايش المشترك بين كل مواطنيها من المسلمين; المهاجرين والأنصار, واليهود وبعض المشركين, والاطلاع علي هذه الوثيقة يوقفنا علي نص دستوري لا نعرف في تاريخ الفكر الإنساني قبله نصا يشبهه في التأسيس للعيش المشترك بين مواطني دولة ناشئة يحملون كل أشكال الاختلاف وصنوف التعدد! ومن هذه القيم: الإقرار بمبدأ التعددية بكل تجلياتها والقبول بالأخر المختلف دينيا وعرقيا وثقافيا. هل أقر الإسلام التعددية الدينية منذ البداية؟ لقد جاء تأكيد إقرار الإسلام بالتعددية الدينية في( الفقرة25) من الوثيقة: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم... ومع ذلك هم أمة واحدة سياسيا ودستوريا, وإن كا ن لكل دينه الذي يختص به, وهذا يذكر بما جاء في سورة الكافرون( لكم دينكم ولي دين) وبقوله تعالي: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصاري والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله علي كل شيء شهيد( الحج17). فقد أوردت الآية أصحاب العقائد والأديان من المسلمين( المؤمنين) واليهود والنصاري والصابئين والمجوس والمشركين جنبا إلي جنب ثم بينت بأن سلطة الفصل بين أتباع الأديان بيد الله تعالي وحده, وأن هذا الفصل الإلهي بين أتباع الأديان موعده يوم القيامة, وليس في هذه الحياة الدنيا, وعلي أتباع الأديان أن يتعايشوا بسلام وتعاون في هذه الحياة الدنيا, وأن يقبلوا بعضهم بعضا, وأن يقروا بحق الجميع في الوجود, وليس لأحد منهم سلطة الفصل في شأن عقائد الآخرين. استخدم النبي الكريم كلمة أمة في نص الوثيقة فماذا عن مدلول هذه الكلمة؟ كلمة أمة في لغة العرب تحمل معاني متداخلة بدءا من: الجماعة المتميزة عن غيرها بخصائص, ومنها قول الله تعالي:( وقطعناهم في الأرض أمما) أي جماعات لها خصائص ليست في غيرها, وعليه فهناك( الأمة) علي مستوي الدين والعقيدة, وقد أشارت الوثيقة إلي ذلك في( الفقرة2) عندما تحدثت عن المؤمنين من المهاجرين والأنصار, قالت عنهم2( إنهم أمة واحدة من دون الناس). أمة واحدة بالوصف الديني العقدي( أمة واحدة من دون الناس), أما بالمعني السياسي الدستوري فهم مع غيرهم من المواطنين الذين يختلفون معهم في الدين والاعتقاد أمة واحدة, وتأسيسا علي ذلك أري أن( الجماعات الدينية الدعوية الإسلامية) يمكنها أن توسع دائرة نظرها واهتمامها إلي الأمة بالمعني الواسع اتساع الأرض, وأن( الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية) عليها أن تلتزم بالمفهوم السياسي والدستوري لمصطلح( الأمة) أي( أمة المواطنين في إقليم ودولة معينة مهما تعددت وتنوعت عقائد مواطنيها وإثنياتهم, فهم جميعا امة واحدة). هل تحدثت وثيقة المدينة عن المبادئ الكلية والمقاصد العليا للإسلام؟ لا تتحدث الوثيقة وهي تضع الأسس الدستورية للحكم في دولة الرسول صلي الله عليه وسلم في المدينة إلا عن المبادئ الكلية والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية, ولا تتوقف الصحيفة عند الفروع والجزئيات والظنيات والأحكام التفصيلية الاجتهادية التي ستتغير مع تغير الزمان والأحوال والمواقف. ما موقف وثيقة المدينة من التعامل مع المجرمين في المجتمع؟ الوثيقة قد شرعت لمبدأ قضائي مهم وهو: عدم نصرة المجرمين الآثمين وعدم إيوائهم والتستر عليهم لأن في ذلك منعا أو تعطيلا للعدالة أن تأخذ مجراها وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر, أن ينصر محدثا( أي مرتكب جريمة) أو يؤويه. وتتوعد الصحيفة من يفعل ذلك وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه عدل( أي فداء) ولا صرف( أي توبة), كما تقرر الصحيفة لمبدأ قضائي عدلي حكيم وهو أن المسؤولية الجنائية فردية وبالتالي فإن العقوبة عليها لا بد وأن تكون شخصية خاصة بمن ارتكب الجريمة, ولا يسد أحد مسده في تحمل العقوبة بدلا منه, قررت الوثيقة ذلك في أكثر من فقرة منها: إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ( أي يهلك) إلا نفسه وأهل بيته. وأنه من فتك فبنفسه فتك وبأهل بيته. وأنه لا يأثم امرء بحليفه, أي إن ارتكب حليفه جرما يستوجب عقوبة قضائية.لا يكسب كاسب إلا علي نفسه. وهذا هو التغيير الهائل الذي أحدثه الإسلام عموما وهذه الوثيقة خصوصا في تقرير مبدأ:( المسؤولية الفردية), وقد وضح القرآن هذا في آيات عدة; منها:( ولا تزر وازرة وزر أخري),( كل امريء بما كسب رهين). ما هي أخلاقيات التعايش المشترك التي دعت إليها وثيقة المدينة؟ من أخلاقيات التعايش المشترك التي حضت عليها هذه الوثيقة, ودفعت المواطنين دفعا لممارستها واعتبارها: خلق التناصر والتناصح والبر دون الإثم. وأسست الصحيفة لمبدأ وجوبية نصرة المظلوم علي الجميع وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه, وأن النصر للمظلوم. ولقد حرصت الوثيقة علي أن التعامل بالمعروف والفضل يساعد علي العيش المشترك وأكدت عليه في غير ما فقرة وأن البر دون الإثم, بالمعروف والقسط, إلا علي سواء وعدل بينهم. وتجعل الوثيقة حق الجار من حق النفس: وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها حق الجار أن يستأذن جاره أو أن يتشاور معه في ما له علاقة بجوارهم المشترك. وأنه من يتبعنا من يهود, فإن له النصرة والأسوة أي: المساواة في حقوق المواطنة غير مظلومين ولا متناصرين. هل من علاقة لهذه الوثيقة بالعهد النبوي إلي نصاري نجران؟ أري أن صحيفة المدينة والعهد النبوي لنجران وملحقاتهما, والعهود العمرية من بعد, قد حفظت للمواطنين من أهل الكتاب وضعا دستوريا متميزا في الدولة الإسلامية, فقد حصن الرسول صلي الله عليه وسلم حقوقهم بكونهم في جوار الله وفي ذمة محمد النبي رسول الله, وقد ختمت صحفية المدينة بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: وأن الله جار لمن بر واتقي, ومحمد رسول الله. ما موقف وثيقة المدينة من حقوق الإنسان؟ دعنا لا ننسي أن هذه الصحيفة الدستورية قد كتبت في زمان لم تكن فيه حقوق للمواطنين مرعية في الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية فضلا عن قبائل العرب في شبه جزيرتهم. ولا ريب أن الأحكام والأسس التي تضمنتها هذه الوثيقة وكذلك العهد النبوي لأهل نجران, والعهود العمرية من بعد ينبغي أن تكون ضابطة لمذاهب الفقهاء ولممارسات الحكام المسلمين مع مواطنيهم, وكل خروج عن مقتضي هذه الأحكام غير مقبول سواء قال به فقيه من الفقهاء أو أقره حاكم من الحكام.