هل صارت الجنسية الروسية سلعة تباع وتشتري؟ سؤال يتقافز علي الشفاه منذ اعلن الرئيس فلاديمير بوتين عن قراره بشأن منح الممثل الفرنسي جيرار ديباردييه للجنسية الروسية الي جانب تساؤلات اخري حول مدي مشروعية قبول التهرب الضريبي مبررا لمنح المواطنين الاجانب الجنسية الروسية مثلما هو الامر مع حالة ديباردييه. ذلك ما يحتدم حوله الجدل في روسيا اليوم, بين متشددين يعتبرون قرار بوتين اهانة لوضعية روسيا ومكانتها, ومرحبين ممن يرون في القرار فرصة واعدة برفد ميزانية الوطن بموارد مالية جديدة, في وقت تعترف فيه الدولة بعجزها عن التصدي لتهريب مئات المليارات من الدولارات التي تتدفق سنويا الي خزائن الخارج! تمع أول ايام العام الجديد فاجأ الرئيس بوتين مواطنيه بمرسوم يقضي بمنح الممثل الفرنسي جيرار ديباردييه الجنسية الروسية بناء علي طلبه, وبعد اعلانه عن تخليه عن جنسيته الفرنسية بسبب ارتفاع ضرائب الدخل علي الاغنياء في فرنسا حتي75%. ولم تكن روسيا لتصدق ان ما تناوله الرئيس بوتين في معرض مؤتمره الصحفي السنوي في اواخر العام الماضي ردا علي سؤال لاحد المراسلين بشأن موافقته المبدئية علي منح ديباردييه الجنسية الروسية, يمكن ان يكون اكثر من مجرد دعابة, وإن اكدت الشواهد لاحقا ان السؤال كان متفقا عليه لاتاحة الفرصة امام الرئيس لاعلان قراره بهذا الشأن. ولعل ما يؤكد صدق هذه التخمينات ما توالي من تصريحات عن كبار المسئولين في الدولة عبر القنوات الروسية الرسمية التي تناقلت تصريح رئيس الحكومة ميدفيديف حول دعوته لديباردييه لزيارة روسيا وتاكيده علي ان بلاده لا تنوي رفع ضريبة الدخل التي تقدر ب13%,في نفس الوقت الذي انبري فيه رئيس الشيشان رمضان قادروف ليعرب عن استعداده لمنحه مسكنا في افخر مباني العاصمة جروزني او بناء بيت خاص له ان اراد ذلك. وما ان أعلن ديمتري بيسكوف المتحدث الرسمي باسم الكرملين عن ان بوتين وقع مرسوما يقضي بالموافقة علي طلب ديباردييه الذي تقدم به عبر السفارة الروسية في باريس حول منحه الجنسية الروسية, حتي توالت التصريحات التي تباينت اطيافها بقدر تباين مواقع اصحابها واختلاف رؤاهم تجاه الموضوع الذي اثار ولا يزال يثير الكثير من الجدل داخل موسكو وخارجها علي ضوء ما توارد من تفاصيل تقول بان القضية لا تقتصر علي مجرد رغبة فنان في التهرب من دفع الضرائب, رغم ان الكثيرين في روسيا اقتصروا في تعليقاتهم علي هذا الجانب من الموضوع. من هذا المنظور يمكن تناول ما اعلنه جيرمان جريف وزير الاقتصاد الروسي الاسبق وحاكم سبيربنك احد اكبر البنوك الروسية حول ان انتقال ديباردييه للعيش في روسيا يمكن ان يكون مقدمة لانتقال آخرين من اصحاب الاستثمارات الاجنبية للاقامة في روسيا تاكيدا لافضلية نظامها الضريبي الذي لا تزيد نسبة الضرائب الموحدة للجميع بموجبه عن13%. ولعل ما اشارت اليه بعض المصادر الروسية حول ان ديباردييه ليس فنانا عالميا شهيرا وحسب, بل ايضا تاجر نبيذ مشهور, يحمل في طياته الكثير من الايماءات التي تفسر بعضا مما قاله الوزير الروسي الاسبق. غير ان ما عادت واعلنت عنه المصادر الروسية الرسمية حول ان روسيا تفقد سنويا مئات المليارات من الدولارات التي يجري تهريبها الي الخارج, يمكن ان يكون ردا منطقيا علي من يحاول تبرير القرار, الذي اعتبره الكثيرون اعلانا سافرا عن ايواء روسيا للمتهربين من سداد الضرائب في اوطانهم, وهو ما ينال من مكانة ووقار الدولة العظمي. وعلي من يريد التاكد من عدم حاجة روسيا الي اموال السكيرين علي حد قول احد المشاهير في موسكو, مراجعة ما اعلنته مصادر البنك المركزي الروسي حول حركة رءوس الاموال خلال الاعوام الاخيرة فضلا عن اعتراف الرئيس بوتين ورئيس حكومته ميدفيديف بعجزهما عن التصدي لمشاكل الفساد وما صدر من ارقام حول حجم رءوس الاموال الروسية التي جري ويجري تهريبها الي الخارج فضلا عن هروب الاستثمارات الاجنبية, في نفس الوقت الذي يتواصل فيه الحديث في اروقة المجلسين التشريعيين حول ضرورة فرض ضرائب تصاعدية علي السلع الكمالية التي انتشرت لدي الصفوة من اثرياء روسيا الجدد. واذا اضفنا الي ذلك الملايين التي ينفقها اثرياء روسيا الجدد في ملاهي ومنتجعات فرنسا علي مدار العام, فاننا نكون امام صورة عبثية بالغة القتامة لا تبدو في حاجة الي مزيد من التفاسير. وفي اطار الانتقاد اللاذع لقرار الرئيس الروسي قال ستانيسلاف جوفوروخين احد اهم رجال السينما الروسية والذي سبق واختاره بوتين رئيسا لاركان حملته الانتخابية الرئاسية في العام الماضي, انه لا يحب مداهنة الاجانب, فيما مضي الي ما هو ابعد حيث وصف ديبادرييه بالسكير.وقال جوفوروخين ان الامر لا يتعدي محاولة نصبس: س هذه المسألة. اما فلاديمير مينشوف الممثل والمخرج الروسي الحائز علي جائزة الاوسكار والذي سبق ومنح ديباردييه دورا متميزا في احد أفلامه حسد الالهة, فقد كان اكثر صراحة حيث قال انني اتفهم الامر باعتباره محاولة للتهرب من الضرائب, ولذا فلست افهم سببا للاعراب عن السعادة. وتساءل مينشوف ساخرا عما اذا كان ديباردييه سيقوم بسداد الضرائب المستحقة عليه لخزينة الدولة الروسية, وما اذا كان ذلك يمكن ان يعني حمله لجواز السفر الروسي انه صار وطنيا روسيا؟. ورغما عن هذه التعليقات فقد وجدنا في مقاطعة كراسنودار علي ضفاف البحر الاسود من يحاول استمالة ديباردييه الي سكني هذه المنطقة المتميزة بمناخها المعتدل في برقية بعث بها رئيس الجهز الاداري للمقاطعة يقول فيها انك لن تجد موطنا للاقامة افضل من مقاطعتنا التي سوف تجد فيها الموقع المناسب, والظروف المناخية المثالية, الي جانب اجمل النساء, وهو ما اثار سخرية الكثيرين ممن اطلعوا علي فحوي هذه البرقية. علي ان الجدل لم يقتصر علي مجرد التعليق حول الجوانب الاقتصادية للقضية بل تعداه الي ما ادلي به ديباردييه من تصريحات يمجد فيها الرئيس بوتين و الديمقراطية العظيمة التي تعيشها روسيا. وبهذا الصدد سخر ممثلو الاوساط الليبرالية الديوقراطية في الداخل والخارج من تقديرات ديباردييه لديمقراطية بوتين ومنهم ماتفي جانابولسكي نجم اذاعة صدي موسكو الذي قال انه لن يغفر لديباردييه ما قاله حول ديموقراطية بوتين العظيمة. وكانت الصحافة الروسية تناقلت ايضا تصريحات ديباردييه الي القناة الاولي للتليفزيون الروسي والتي قال فيها انه ولد عن اب شيوعي ووعد بتعلم اللغة الروسية معربا عن رغبته في استيطان احدي القري الروسية بعيدا عن صخب العاصمة موسكو وهو ما تجسد في قرار بتسجيل اقامته في جمهورية موردوفا ذات الاغلبية السكانية الاسلامية جنوب شرقي العاصمة موسكو والتي سارع ديباردييه بزيارتها وسط اهتمام اعلامي واسع النطاق.وهناك بادرت بعرض منصب وزير ثقافة الجمهورية عليه,والذي اعتذر عنه مازحا بقوله انه وزير ثقافة العالم. وفيما ابرزت وسائل الاعلام الروسية ما اعرب عنه الفنان الفرنسي من مشاعر حب لروسيا ولمواطنيها, وايضا لبوتين الذي قال انه يبادله ذات المشاعر, استعرضت بعضا من جوانب علاقة ديباردييه برئيس حكومته الفرنسية جان مارك ايرو الذي وصف قرار تخليه عن الجنسية الفرنسية بسبب رفض ضريبة الدخل علي الاغنياء بانه يثير مشاعر الشفقة. وقالت ان الممثل الفرنسي سارع بالرد علي رئيس الحكومة الفرنسية بقوله: من تكون انت حتي تحكم علي تصرفاتي؟ لا حاجة لي بتقديراتك.. لا اسفا ولا مديحا, لكنني اسجل اعتراضي علي وصف المثير للشفقة, وارسل اليك طيه جواز سفري الفرنسي وبطاقتي الاجتماعية التي لم استفد منها يوما. واعتبارا من اليوم لا وطن يجمعنا!!. ومع ذلك فقد عاد ديباردييه ليقول انه يظل مواطنا فرنسيا في نفس الوقت الذي اكد فيه طلبه حول حمل الجنسية البلجيكية ما قد يبرره الانتقال الي احدي المدن بلجيكا القريبة من الحدود مع فرنسا بما قد يقنن تهربه من سداد الضرائب الي الخزينة الفرنسية والتي قال ديباردييه انها ستفتقد ايضا الي الضرائب المستحقة علي قرابة الثلاثين من اكبر اثرياء فرنسا ممن قرروا الاقامة في الخارج بعيدا عن تسلط النظام الضريبي للحكومة الاشتراكية. اما عن النشاط الفني للممثل الفرنسي العالمي فقد اعلن ديباردييه انه بصدد الاعداد لاعمال سينمائية مشتركة في روسيا وخارجها بعد انتهائه من بطولة فيلم راسبوتين الذي شاركت في انتاجه القناة الثانية الروسية التليفزيون الرسمي للدولة, وهو الفيلم الذي لا بد ان يعيد الي الاذهان مع عرضه في مايو المقبل, الكثير من الذكريات التاريخية حول هذه الشخصية الاسطورية المثيرة للجدل, والتي طالما حار المؤرخون امام حقيقة دورها وخفايا علاقاتها مع العائلة القيصرية ونبلاء ذلك الزمان.