نحن نعيش في مصر تحت خط الفقر المائي! هذه هي الحقيقة المرة التي يجب أن نتعامل معها بكل جدية, لتقليل المفقود من المياه, في كل شيء في حياتنا, حتي في الزراعة. وفي الفترة الأخيرة تعالت أصوات الخبراء محذرة من خطورة إهدار المياه في الري بالغمر, ومطالبة في الوقت نفسه باتباع نظم حديثة كالري بالغمر المتطور, أو بالرش, أو بالتنقيط, فضلا عن إعادة النظر في المقننات المائية, أو ما يسمي الاحتياجات المائية تحت ظروف نقص المياه, بمعني أننا نستطيع خفض المياه المستخدمة في الري بنسب معينة, ودون أن يؤثر ذلك في إنتاجية المحاصيل أو الأشجار, وهو ما يعرف عالميا ب الري الشحيح. نظام الري الشحيح, كما يشرحه الدكتور محمد حنفي أستاذ هندسة الري والصرف ورئيس قسم الهندسة الزراعية بكلية الزراعة بجامعة القاهرة, ينطلق من ضرورة إعادة النظر في المقننات المائية أو ما يسمي الاحتياجات المائية للمحاصيل والأشجار تحت ظروف نقص المياه, بمعني أننا نستطيع خفض المياه المستخدمة بنسبة معينة, وفي فترات النمو غير الحساسة, بما لا يؤثر في إنتاجية المحاصيل أو الأشجار. والسؤال الآن: هل يشكل تخفيض الاحتياجات المائية بنسبة10% خطورة علي المحاصيل الإنتاجية.. وهل يهدد سلامتها؟ الإجابة: بالطبع لا.. ففي بعض الأحيان لو خفضنا كمية المياه المضافة إلي النبات فسوف يؤدي ذلك إلي تحسين ظروف التربة, وبالتالي زيادة الإنتاجية, وبذلك لابد من دراسة الاحتياجات المائية لكل محصول, وهذا ما يعرف عالميا بأسلوب الري الشحيح, وهذا الأسلوب يتم اتباعه في ظل ظروف نقص المياه الذي نواجهه الآن, لاسيما أننا دخلنا مرحلة الفقر المائي التي يصل فيها نصيب الفرد من المياه إلي نحو ألفي متر مكعب سنويا, بينما تراجع نصيب الفرد لدينا إلي800 متر مكعب سنويا, وهنا يجب أن نعيد النظر في المقننات المائية بحيث نطبق نظام الري الشحيح للزراعات في فترات نمو محددة, كما يجب التوسع في إجراء الأبحاث العلمية علي المقننات المائية اللازمة لكل محصول علي حدة. هذا ما بدأ في قسم الهندسة الزراعية بكلية الزراعة جامعة القاهرة, إذ تجري دراسات علي الذرة والقمح بحيث يمكن تخفيض نسبة المياه المستخدمة في الري بنسبة20% مثلا في فترات النمو غير الحساسة, الذي يمكن أن يكون مفيدا للنبات, كما يؤدي إلي تحسن خواص التربة, وزيادة الإنتاجية, وقد وقع الاختيار علي الذرة والقمح لأنهما من المحاصيل الرئيسية المحبة للمياه, وتزرع بهما مساحات كبيرة, وبالتالي فإن تخفيض كمية المياه المستخدمة في ري هذين المحصولين ستكون مجدية, كما أنه يجب دراسة تطبيق نظم الري الشحيح في محصولي القصب والأرز, لاسيما أن هناك نظما متطورة لزراعة وري الأرز. الري بالرش والتنقيط لمن لا يعرف فإن نظم الري الحديثة كالري بالرش, أو بالتنقيط مفيدة في الأراضي الجديدة( المستصلحة), لكن لكل منهما استخداما معينا, فالري بالرش يصلح مثلا لري المحاصيل الكثيفة كالقمح, والبرسيم, بينما يصلح الري بالتنقيط لأشجار الفاكهة والخضراوات. في الوادي والدلتا لابد من التحول من الري السطحي إلي الري بالتنقيط, خاصة في المحاصيل ذات العائد الكبير والمغري, كأشجار الفاكهة, والخضراوات ذات العائد الكبير, حيث إن العائد يمكن أن يعوض التكاليف, وهذه الخطوة يمكن أن تساعد علي تحسين خواص التربة, وزيادة الإنتاجية, ويمكن أن تعطي الدولة دعما ماليا( في صورة قروض), أو فنيا للمزارع, أو صاحب الأرض, والفارق بين الري السطحي( الغمر) وطرق الري الحديثة الأخري أن الأخيرة ترفع كفاءة الري, أي تقلل الفاقد من المياه, فإذا كان الري بالرش يوفر35% من كمية المياه المستخدمة في الري السطحي, فإن الري بالتنقيط يوفر45% من كمية المياه, وبالنسبة لبقية المحاصيل فإنه يجب تحويلها لاستخدام نظم الري الحديثة, بدلا من الري السطحي الذي يهدر كميات كبيرة من المياه, وهذا التحول يحتاج بالقطع إلي تدريب, وسياسة زراعية, ودعم فني ومالي. وللدكتور علي النجار أستاذ مساعد الري الضغطي بقسم الأراضي بكلية الزراعة بجامعة القاهرة وجهة نظر أخري, فهو يري أن القرار الذي صدر أخيرا بتحويل الري بالغمر في أراضي الدلتا إلي ري بالتنقيط, في غاية الخطورة, إذ أن تحويل نظام الري من الغمر إلي التنقيط سوف يؤدي إلي تحويل مساحات كبيرة من هذه الأراضي الخصبة إلي أراض ملحية, وتكوين بؤر ملحية, ومع استمرار الري بهذا النظام لمدة10 سنوات مثلا فإن التربة الزراعية في الدلتا سوف تصبح شديدة الملوحة, وستكون المساحات المحيطة بالشجرة أو خط التنقيط هي التي سوف تصلح فقط للزراعة, وبالتالي سوف تصبح كميات كبيرة من الأراضي التي سيتم تحويل الري فيها من الغمر إلي التنقيط غير مؤهلة للزراعة بسبب ملوحتها الشديدة! الغمر المتطور أنسب الطرق أما أنسب طرق الري, في رأي الدكتور النجار, فهو الري بالغمر المطور, أو ما يسمي المواسير المبوبة, وهي عبارة عن مواسير يتم فيها نقل المياه حتي منطقة التوزيع, وبها فتحات تواجه كل خط من خطوط الزراعة, وعند فتح هذه الفتحات يدويا أو آليا تخرج كميات محسوبة من المياه إلي خط الزراعة بما يكفي الاحتياجات المائية للنبات, واحتياجات الغسيل اللازمة للتخلص من الأملاح المتراكمة عقب كل عملية ري. ويري د. النجار أن النظام قد يكون مكلفا جزئيا في البداية فقط, لكن فوائده كبيرة من حيث تقليل المفقود في المياه المستخدمة في الري, فالتحول لنظام الري بالغمر المطور سوف يرفع كفاءة الري لأكثر من75%, بينما لا تتعدي كفاءة الري بالغمر العادي أكثر من40%. ولا تقتصر فوائد التحول للري بنظام الغمر المطور علي تقليل المفقود من المياه, أو تحسين كفاءة عملية الري, لكن هذه الفوائد تمتد إلي تحسين وزيادة الإنتاجية عند استخدام المواسير المبوبة, وكذلك عند اتباع المعاملات الزراعية السليمة مثل التسميد المناسب, وزراعة الأصناف المناسبة للمنطقة المزروعة. الري الحديث بالصحراء هذا بالنسبة لأراضي الدلتا, أما الأراضي الجديدة( المستصلحة) فإن الري بالرش أو التنقيط إجباري فيها, إذ إنه لا يمكن استخدام التربة الرملية في الري, كما يحدث عند الري بالغمر في أراضي الدلتا, ذلك أن نفاذية التربة الرملية عالية, وبالتالي سوف تتشرب هذه التربة المياه عند محاولة ري الزراعات بالغمر, وبذلك سوف تصل كميات قليلة من المياه إلي الزراعات, من هنا كان الري بالرش أو بالتنقيط إجباريا, ولا بديل عنه. ومن مميزات الري بالتنقيط, كما يقول الدكتور علي النجار, إمكان وضع السماد مع مياه الري, وبالتالي نكون قد رفعنا كفاءة عملية التسميد, ووفرنا في كميته, ووضعناه في الوقت المناسب, وبأقل التكاليف, فضلا عن إمكان التحكم في كمية المياه المضافة للنبات بالقدر الذي يحتاجه, والوقت المناسب لذلك من حيث عمر النبات, ونوعه, ومسافات الزراعة, ويمكن في الري بالتنقيط زراعة كل أنواع الخضار, وأشجار الفاكهة, وزراعة مساحات كبيرة بأقل عدد من العمال, سواء من خلال الإدارة الاتوماتيكية, أو نصف الاتوماتيكية, إلي جانب إمكان استخدام معدات داخل الأرض في أثناء عملية الري لإجراء أي عملية زراعية, ومثل هذه الإمكانات والمميزات لا يمكن أن تتحقق عند الري بالغمر. ويتفق معه الدكتور عبدالمنعم الجلا أستاذ الأراضي بكلية الزراعة بجامعة عين شمس, الذي يري أن تطوير الري السطحي( أو ما يسمي الري بالغمر), هو خطوة جيدة وقد تم تنفيذها في عدة محافظات, ويجب التوسع فيها في كل المحافظات, لتقليل المفقود من المياه, مشيرا إلي أن هناك خطة يجري تنفيذها حاليا من خلال إنشاء هيئة المنتفعين بحيث تشترك كل مجموعة من الفلاحين المستفيدين من مساقي معينة في تبطينها, وتزويدها بأنابيب لتقنين كمية المياه المستخدمة في الري, ولاشك في أن اتباع النظم الحديث في الري أصبح ضرورة مهمة في ظل الحديث عن الفقر المائي, لاسيما أن الري السطحي العادي يتسبب في إهدار ما لا يقل عن20% من كمية المياه.