إن الأزهر, بما له من منزلة كبري ومرجعية علمية متفردة في عقول المسلمين وقلوبهم, يرحب بالتعاون بين قادة الدين المسيحي وعلماء الإسلام, لمساندة الجهود السياسية والدبلوماسية في إرساء السلام والتصالح.. ورؤية الأزهر في هذا الأمر المهم تستند الي ضرورة إرساء السلام بين قادة الأديان أولا قبل أن يطالبوا غيرهم به, لأن فاقد الشيء لايمكن أن يعطيه لغيره, كما هو معلوم, ولأنه لايتصور أن يعجز علماء الأديان عن صنع السلام فيما بينهم, ثم يزعمون أنهم يصنعونه بين الناس, وقد نبه شيخ الأزهر الشيخ مصطفي المراغي رحمه الله الي ضرورة هذه الخطوة في كلمته التي بعث بها الي مؤتمر الأديان الأول الذي عقد في لندن سنة1936 م, بعنوان: الزمالة العالمية, وتحدث فيها عن تراجع القيم الدينية أمام قيم الحياة المادية, وكيف أن هذا التراجع كان وسيظل من أقوي أسباب الصراع العالمي, وأن التقدم العلمي والفلسفي كلاهما غير قادر علي التغلب علي أسباب هذا الصراع. وقد لوحظ أن الحروب تزداد هولا ووحشية كلما ازداد العلم قوة وتقدما. وانتهي الشيخ في ذلكم الوقت الي أن البداية الصحيحة لتطويق الصراعات العالمية هي بعث الزمالة الدينية أولا بين زملاء الأديان أنفسهم, لأنهم أولي الناس بأن يفهموا أن الخطر الذي يداهم الإنسانية لايجييء من أديان المخالفين وإنما يجييء من الإلحاد ومن الفلسفات التي تقدس المادة وتعبدها, وتستهين بتعاليم الأديان وتعدها هزوا ولعبا. ويقترح الأزهر الآن ما اقترحه شيخه الجليل في ثلاثينيات القرن الماضي من ضرورة تكوين هيئتين, أو هيئة واحدة ذات شعبتين: إحداهما, تعمل علي تنقية الشعور الديني من الضغائن والأحقاد, وذلك بتوجيه أنشطة المؤسسات الدينية المختلفة صوب هذا الهدف النبيل, بدلا من توجيهه صوب الصراع بين الأديان والمتدينين. وطريق ذلك جمع المعاني الإنسانية السامية العامة في كل دين, من الرفق بالبشر وتكريمهم والبر بهم دون نظر الي الفوارق التي تفرق بينهم, وإذاعة ذلك بمختلف الوسائل في مختلف اللغات, وأن يعتمد في نشر هذه المعاني المشتركة بين الأديان علي أساس عقلي محض, وحب للحقيقة, مع تجنب الاعتماد علي وسائل غير بريئة في توجيه الاعتقاد أو الإغراء به. أما الهيئة/ الشعبة الثانية: فمهمتها تقوية الشعور الديني لدي الطبقات المستنيرة, حتي يمكن تدعيم مراكز التدين أمام البحث العلمي والتفكير الحر, تدعيما يتأيد بمقابلة الدليل, والبعد عن استعمال السلطة الدينية المستبدة. حتي لاتتكرر الأخطاء الماضية التي دفعت الإنسانية ثمنها باهظا ومرهقا. ويعجب الشيخ من قدرة أصحاب المذاهب الاجتماعية والفلسفية ودعاة الفكر المادي علي توجيه التشريعات المحلية والعالمية نحو تأييد مبادئهم وقواعد أنظارهم, وعجز رجال الدين وعلمائه عن توجيه هذه التشريعات نحو الأصول العامة المشتركة في الأديان.. ويدعو هؤلاء الي تحمل مسئولياتهم في هذا التوجيه حتي يمكن محاصرة الأمراض والأوبئة الخلقية الحديثة, وغيرها مما جاءت الأديان لاستئصال شرورهم وتطهير الإنسانية من أدناسه. أما حديث الإرهاب وعلاقته بالأديان, فإنه رغم انتشاره في الاعلام العالمي بكل مستوياته لايزال حديثا غامضا وغير محدد, وكثيرا ما اتخذ غطاء لتمرير جرائم كبري لن يغفرها التاريخ لهولها وشناعتها, ونحن لم نصل حتي الآن الي تعريف جامع ومانع لمعني الإرهاب, وما أظن أننا سنصل الي هذا المفهوم المحدد ما ظلت السياسات العالمية تعمل بمبدأ الكيل بألف مكيال. فمع هذا المبدأ لايمكن أن نعرف الفرق بين المجرم المعتدي وصاحب الحق الذي يدافع عن نفسه ولا الفرق بين الظالم والمظلوم.. ونحن كمسلمين لانستحسن السؤال عن العلاقة بين الدين والإرهاب, لأن إيماننا راسخ بأن الإيمان بالأديان الإلهية والإرهاب نقيضان لايجتمعان في قلب مؤمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر, وقد رفض المسلمون قاطبة تفجيرات11 سبتمبر2001 م وما تلاها من تفجيرات في لندن وباريس ومدريد والقاهرة والرباط, وأظهروا للعالم أجمع اشمئزازهم من هذه الجرائم البشعة, وبرغم ذلك ظلت لعنة الإرهاب تطارد الإسلام وحده من بين سائر الأديان والملل, وتلتصق بالمسلمين وحدهم من بين سائر أهل الأديان, مما يدل علي نية مبيتة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين في عيون الغربيين, مع غفلة عن الآثار السلبية في نفوس المسلمين, وتساؤلهم عن مدي جدية العقلية الغربية في فهم الإسلام فهما صحيحا بعيدا عن نوازع العصبية والهوي والتضليل.. ونحن نعتقد أن ظاهرة الإرهاب لايمكن أن تعالج في غيبة من أسبابها وبواعثها, والتي تتلخص في الظلم الذي تمارسه القوي الكبري, والكيل بمكيالين وبأكثر من مكيالين, دع عنك التدخل في شئون الآخرين وثقافاتهم ومقدساتهم. ومن السذاجة بمكان توقع مباركة الآخرين لهذه الاعتداءات.. وليس هذا دفاعا أو تشجيعا للإرهاب كما يحلو لبعض الغربيين, الذين يخلطون عن عمد بين المطالبة ببحث أسباب الإرهاب, والرضا به أو إغضاء الطرف عنه, ويعتبون علي من يبحث في أسباب هذه الظاهرة ويتهمونه بتشجيعها, وكان المسموح به هو البحث عن النتائج بعد قطعها وبترها عن مقدماتها التي أنتجتها. إن الأزهر يمد يده لأي يد تسعي لتحقيق سلام عادل لايفرق بين الناس, وبخاصة حين تكون هذه اليد من ذوي القربي في الدين والإيمان بالله, ولايشك الأزهر في أن وحدته مع قادة الأديان المخلصين, أصحاب الروحانية الصادقة, والقلوب الصافية سوف تسفر بعون الله تعالي عن نتائج قيمة في تصحيح مسار البشرية الذي انحرف بعيدا عن طريق السعادة الحقيقية. إننا نؤكد أن هذه المصارحة إنما تنبع من قلوب مفتوحة تسعي للتعاون ولأبعد مدي ممكن من أجل تحقيق الإنصاف والأمن والسلام والرخاء, للمظلومين والمحرومين والمروعين, والفقراء والبائسين واليتامي والأرامل. ونؤكد أيضا أن الأزهر الشريف يستجيب لكل دعوة جادة تهتم بنشر السلام العالمي المؤسسة علي العدل, واحترام حقوق الإنسان, والمساواة بين الناس, كما يؤمن بأن الأغراض الإنسانية حين تتبناها مؤتمرات حوار الأديان فإنها تصبح من أهم مقاصد الاسلام وغاياته القصوي.