بهاء طاهر..ربما لن تري كاتبا مثله يصبح القلم معه وكأنه يد ثالثة تصافح و تهدهد.وقد ترتفع في بعض الأحيان معترضة, الا اننا وفي كل الأحوال لا نملك سوي أن نحترم ونحب هذا القلم وهذه اليد التي تكتب. فعندما نقرأ لبهاء طاهر نجد أنفسنا أمام عالم يتحرك علي الورق ليشعر من يقرأ أنه ليس مجرد مشاهد تجري أمام عينيه تفاصيل مشهد مسرحي أو سينمائي ولكنه يشعر بأنه جزء من الرواية.. من القصة القصيرة.. من أصل الحكاية. فهل يستطيع أحد أن يقرأ لبهاء طاهر دون يكون واحدا من أبطال خالتي صفية والدير و قالت ضحي و الحب في المنفي و نقطة النور و واحة الغروب و بالأمس حلمت بك و أنا الملك جئت؟ لا أعتقد أن أحدا يستطيع الافلات من عالمه الذي دخله قبلنا ليعد وليمة إبداعية باذخة وكأنه كان يتوقع منا هذه الزيارة. عندما تجلس إليه لتحاوره ستجد أن الاسئلة تتوالي بشكل عفوي يبعدك عن حسابات الحوار الصحفي..فبهاء طاهر في النهاية واحد من المصريين الذين تأتي كلماتهم مباشرة من القلب كأنها عفو الخاطر.. فماذا قال و هو يستعد لنشر رواية جديدة يعتبر أسمها وتفاصيل حكيها سرا من الأسرار الحربية حتي تنشر, وأيضا عمله أيام الأمل والحيرة الذي يتناول الثورة المصرية... وقد ذكرته بأن هذا العام يشهد أيضا مرور أربعين عاما كاملة علي نشر أول أعماله... فكيف يري الآن بهاء طاهر الكاتب الشاب؟ أريد أن ألوم بهاء طاهر الشاب كثيرا لأنه كان بصراحة يستطيع أن يعمل ليقدم أفضل مما قدم وأن ينتج أعمالا أكثر. ولهذا ألومه لأنه لم يفعل هذا وإن كانت الظروف لم تساعده. فلمدة عشر سنوات لم تكن هناك فائدة من الكتابة لعدم النشر. وهذه السنوات العشر للأسف كانت في سن الحيوية. ولهذا فتقصيري له ما يبرره, وإن كان هذا لا يعني أنني أعترف بأني مقصر. ولكني من ناحية أخري أعتقد أن كتابة أعمال قليلة جيدة أفضل بكثير من كتابة أعمال كثيرة متوسطة أو أقل من متوسطة. كما أنني أشعر أن كل عمل قدمته كان بمثابة العلامة, وهو ما حدث مثلا مع بالأمس حلمت بك. فما كتب عن هذه المجموعة القصصية من مقالات يفوق حجمها عشرات المرات. وقد تكرر الموقف نفسه مع قالت ضحي وواحة الغروب و الحب في المنفي. فكل ما كتبت كان موضع حفاوة من النقد ولهذا أنا مستريح, لأنني لم أكتب كثيرا ولكني قدمت الأفضل. هذه المشاعر المتضاربة تعود بنا إلي البدايات: في زمن الستينات, وقتها كان جيلكم يواجه مشاكل في النشر ولكنه يحظي بالاحتفاء النقدي عكس الحال مع الأجيال الجديدة.. أليس كذلك؟ *أظن اننا كنا محظوظين في معاصرتنا حركة نقدية عظيمة. فصحيح أننا لم نلحق بناقد كبير مثل د. محمد مندور رحمه الله الا أننا وجدنا جيلا لاحقا من النقاد أصحاب قامة مرتفعة كالدكتور لويس عوض ود. عبد القادر القط وفاروق عبد القادر وكثير من الاسماء النقدية اللامعة. ولهذا أشعر بالتعاطف تجاه الجيل الجديد الذي يصعب علي علي حد التعبير العامي الدارج لأنه ليس لديه هذا الحشد أو الجمع من النقاد. كان كل واحد منهم يقول وجهة نظره وينظر إلي العمل الأدبي من زاوية مختلفة. فماذا كانت المشكلة التي يواجهها شباب الستينات عندما يبدعون؟ المشكلة كانت كما ذكرت في إجابتي علي سؤالك الأول.. مشاكل في النشر. فقد كان نشر قصة قصيرة بمثابة المعجزة. وكنا عندما نذهب للكاتب الكبير يحيي حقي في المجلة لينشر لنا كنا نضع قصصنا ضمن كومة قصص أمامه كان من المعتقد أن ينتهي كاتبنا من نشرها جميعا في حدود العشر سنين. و كان من المفروض أيضا مراعاة اللياقة, أي أن أضع قصتي تحت أخر كوم إلي أن يدركها الدور حتي لا أعتدي علي حق أخرين سبقوني وينتظرون النشر. فلم يكن يوجد في ذلك الزمن دور نشر تكفي لسد إحتياجات الكتاب الشباب. فالموجود هو الدار الحكومية وهي الوحيدة التي يمكن أن تنشر أعمالك. ولهذا فمسأله العشر سنوات لم تكن بالمدة البعيدة في إنتظار الدور. أما الآن فالكتاب الجدد محظوظون, لأن هناك أكثر من دار نشر حكومية وخاصة تتنافس علي النشر للمواهب الشابة,بينما كان مقدرا علي جيلنا أن يسعي وينشر علي حسابه الخاص إذا لم يستطع الإنتظار لسنوات و قد تأخرت في النشر إنتظارا للفرصة لأنه بصراحة لم يكن معي أموال لأنشر علي حسابي الخاص. كان الكثير من هؤلاء الشباب ينتمون لفن القصة القصيرة وهناك من يقول أنها لم تعد متواجدة بنفس القوة في السنوات الأخيرة. أم أن المسألة أنها لا تحصل علي نفس حجم الاهتمام الذي تحصل عليه الرواية؟ أخر ما نشرت كان مجموعة من القصص القصيرة وكانت تحمل أسم لم أكن أعرف أن الطواويس تطير. ورأيي المتواضع أن القصة القصيرة هي أجمل شكل نثري, وأنه يجب التعامل معها معاملة الشعر. بمعني أنه ينبغي التعامل معها دون نظر لمسألة الكم أو طول القصة. فينبغي أن ننظر إليها ونعاملها معاملة القصيدة. فكثير من الناس يقولون أنهم يشعرون بالاستمتاع الشعري عندما يقرأون بالأمس حلمت بك. ولهذا القصة القصيرة ينبغي أن تكون تحفة. ولكن ليس كل كاتب يستطيع أن يبرع في كتابتها, فكثيرون يكتبون القصة القصيرة ولكن يوجد يوسف إدريس واحد. علي ذكر الانبهار و الاستمتاع.. أريد أن أسألك عن إفتتانك واستمتاعك الشخصي بالصحراء التي تبدو بعيدة عن الأقصر..جنيف.. الجيزة.. وسط البلد, وكلها أماكن تتقاسم وجدانك؟ أنا فعلا أحب الصحراء وقد قلت في إحدي قصصي إنها بستان الله الذي تزدهر فيه الروح. فمن يجلس في الصحراء ويعجز عن التأمل هو شخص بالتأكيد لديه مشكلته الشخصية. فأفضل مكان يمكن للانسان أن يتأمل فيه حقيقة الحياة وأن يبتعد عن الصخب والضجر لابد وأن يكون في الصحراء. ولهذا فليس غريبا أن معظم الأنبياء ظهروا في الصحراء. وهذه الحكمة ربما تفتح الطريق لسؤال عن افتتان آخر بشكل السرد المكثف الذي لا يتجاوز كثيرا الثلاثمائة كلمة في إبداع نجيب محفوظ الأخير اصداء السيرة الذاتية ؟ أشعر بالفعل بالاعجاب الشديد بها ولكن هذا لا يعني أن كل كاتب يستطيع أن يفعل الشئ ذاته. فلا يستطيع كاتب أن يقلد كاتبا أخر أو أن يختار قالبا كان كاتب قد نجح في التعبير من خلاله. فلابد من جديد وعدم الارتياح للتقليد. ولكني أتوقف كقارئ أمام اصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة بإنبهار شديد. فهما عملان بديعان وتستوقفني طريقة الحكي والكتابة. من يعرفك عن قرب يفهم أنك صاحب إختيارات خاصة.. ولهذا أتوقف عند تركك قلم المبدع عنما قمت بترجمة رواية ساحر الصحراء للكاتب باولو كويلهو فلماذا هذه الرواية وهذا الكاتب؟ عندما أخترت كويلهو لم يكن المقصود ترجمة ما يكتب بالاسبانية أو البرتغالية ولكني كنت بالفعل أشعر بالحيرة من هذه الرواية التي سجلت نجاحا كبيرا في كل أنحاء العالم. وكنت أريد أن أقترب من أسباب نجاحها. فالناس في كل العالم من فرنسا إلي إيران إلي جنوب أفريقيا شغوفة بها فقررت ترجمتها لأعرف سرها. وهل توصلت إلي أسباب نجاحها؟ أظن أن السبب الحقيقي أنها تحمل رسالة أمل في عصر يبحث فيه الناس عن بصيص أمل. فالرواية تقول أنك في يدك أن تخلق هذا الأمل وأن تغير حياتك بيدك. وأن تجعل القدر يستجيب كما يقول الشاعر أبو القاسم الشابي. ولهذا فالمفتاح السحري والحل الذي يحمله الأمل هو الذي جعل الناس من ثقافات وبلاد مختلفة يلهثون وراء الرواية. ولهذا اسألك أنا: ما الذي يربط بين إيران التي منحته جائزة وفرنسا التي تصدرت الرواية فيها الكتب الأكثر مبيعا علي امتداد سنة كاملة. وقد قابلت مصريين قالوا لي أن هذه الرواية غيرت من حياتهم. أريد أن أترك عالم القصة والرواية لأنتقل إلي كتاب صدر حديثا عنك بعنوان بهاء طاهر ناقدا مسرحيا و يتناول عملك بالاخراج المسرحي والنقد والترجمة في بداياتك.. وهذه التجربة تبدو مفاجأة بالنسبة للبعض الذي لا يري بهاء طاهر الا داخل الرواية والقصة القصيرة ؟ لي اهتمامات بالمسرح, وأول ما ترجمت كان مسرحية أمريكية للكاتب يوجين أونيل. كما أن لي كتاب يحمل اسم مسرحيات مصرية.. عرض ونقد ولكنه لم يحقق شهرة كبيرة وإن كنت فخورا به. وهذا الكتاب الذي ذكرته بهاء طاهر ناقدا مسرحيا أستطاع مؤلفه شعبان يوسف البحث في الدوريات والكتب لنشر بعض المقالات المسرحية. ومازالت لدي مقالات لأنني كنت مهتم بالمسرح في شبابي. وأول ما كتبت كان مسرحية قصيرة من فصل واحد في مجلة الأداب البيروتية سبقتها مسرحية بلا رجل ونشرتها في مجلة البوليس التي كان يرأس تحريرها الراحل سعد الدين وهبة. وأريد الآن أن أنشر المسرحيتين تحت عنوان الكتابات الأولي ولكن لابد أن أجد ناشرا متحمسا. صعب جدا أن أتصور أنك مازلت تبحث عن ناشر وأنت واحد من أهم الروائيين العرب المرشحين لجوائز عالمية وقد قرأت لك رأيا أن كثيرا من الكتاب العرب يستحقون جائزة نوبل للأداب الا ان الوصول يتطلب آليات مساندة للمبدع.. فما تلك الآليات؟ كان المأمول بعد إنشاء المجلس القومي للترجمة أن تكون هناك خطة مدروسة ومحققة. ولكن للأسف الشديد لم يحدث. ولهذا قلت في الاجتماع الأول لتقييم المشروع أنه لابد من الاستفادة من أخطاء الماضي, والاهتمام بترويج الأعمال الجيدة المترجمة.وأن يكون الإختيار صحيحا. وعلي الدولة والمجتمع كخطوة ثانية أن يروجوا لهذه الأعمال الجيدة. فعندما قابلت مترجمة إيطالية كانت قد ترجمت لي خالتي صفية والدير وجدتها و بمبادرة شخصية تدور علي المكاتب الثقافية العربية في روما وتقترح ندوات لشراء نسخ من هذه الكتب فلا تجد من يجيبها أو من يحييها علي جهودها. وعلي الجانب الأخر نجد لدينا في الصحافة المصرية ترويجا إعلاميا كبيرا لأي عمل مترجم إلي العربية وكأننا نعزل أنفسنا بأيدينا. هذه العزلة كنت دائما تنفيها عن مصر في كتابك أبناء رفاعة الذي تحدثت فيه عن حركة التنوير بعد زمن رفاعة الطهطاوي والذي أوضحت فيه أن حضارة المصريين حية ومتجددة. فكيف تقيم الأن المفهوم المصري للتحضر ؟ رأيي الشخصي أن التاريخ لحظة ممتدة. وهذا العصر هو عصر اخناتون وصلاح الدين الأيوبي وكل الحضارات التي تعاقبت علي مصر في وجداننا. فنحن أولاد كل هذه الحضارات المصرية القديمة واليونانية والقبطية والاسلامية وهي موجودة في عقلنا الباطن, ويعيش منها ما يصلح لأن يكون ممتدا وباقيا مثل قيم السماحة في الاسلام. وهذه القيمة من أهم سمات الشخصية المصرية. ومن المؤكد أن الحضارة الاسلامية الحقيقية هي السبب في هذه السماحة والخروج عنها خروج عن الحضارة الاسلامية.وحضارتنا زراعية تقوم علي التعاون بين الفلاحين في الري والحصاد وهي قيمة موروثة منذ زمن المصريين القدماء. إذن أنت مازلت تري نقطة النور التي كتبت عنها في روايتك اتي تحمل نفس الأسم؟ *بكل وضوح أنا من أشد الناس تفاؤلا والنور بإذن الله سيغمر الوطن وخاصة بعد ثورة25 يناير. فهذه الثورة أخرجت أفضل ما في الشخصية المصرية. وأما ما يحدث من تقدم أو تراجع فهذا شئ طبيعي. فالصعود والانحسار من طبائع الأمور, والثورة موجودة وستحقق أهدافها في العيش والحرية والعدالة الإجتماعية سواء طال الزمن أو قصر. أخيرا ما هي الرسالة التي تريد أن ترسلها إلي الكاتب بهاء طاهر؟ حاول أن تتغلب علي المشاكل الصحية المرتبطة بالشيخوخة وتدعي أنك شاب الروح لتعمل.