أفرز الفكر الانساني عدة توجهات تتعلق بمفهوم العدل الاجتماعي وقواعد الدولة المدنية العادلة, ويري مفكرون مثل هوبز وروسو وقانت تحقيق ذلك من خلال إرساء هياكل المؤسسات العادلة داخل الدولة. بينما يري فريق آخر ممثل في آدم سميث وماركس وكوندورسيه وجون ستيورات ميل ان انماط السلوك داخل المجتمع هي الاساس في تفعيل العدالة, واعتبر جون روولز والمدرسة السياسية الحديثة في القرن العشرين- ان المؤسسات تشكل الهيكل الاساسي للمجتمع وعليه فتحديد مواصفات تلك المؤسسات وطرق إدماجها في النظام المجتمعي لهو قادر علي التأثير في سلوك وتصرفات الناس, وبالتالي فإن تصميم شكل وصلاحيات المؤسسات وجودة ارتباطها بالمجتمع هو الركن الاساسي للعدالة, ولقد أضاف المفكر الاقتصادي جون كينيث جالبريث لكل ما سبق مفهوم السلطة المضادةCounterveilingPower- مثل سلطة النقابات في مواجهة سلطة رأس المال ليبين أهمية تحقيق التوازن بين القوي المختلفة داخل المجتمع من خلال مؤسسات ذات نفوذ مضاد, ويهدف جالبريث من ذلك التغلب علي فساد السلطة الذي ينشأ في مؤسسات لا تقابلها سلطة موازية في مؤسسات اخري ذات مصلحة متعارضة, ويري ان الديمقراطية والعدالة مرتبطتان بتوازن سلطة المؤسسات في مجتمع يتسم بتعدد مصادر التعبير, وتتلاقي كل هذه التوجهات التي تبلورت من خلال تجارب الدول الديمقراطية الحرة حول مفاهيم مشتركة, فترتيبات مؤسسات المجتمع والدولة يجب ان تتزامن مع مشروع التغير السلوكي المبني علي تعليم المرأة وعلي مجتمع أكثر استنارة وعلي الحوارات العامة, وبالنسبة لنا في مصر فان الاستفادة من هذا الميراث الفكري لن تنحصر فؤائده في حل إشكالية العدل الاجتماعي فقط بل وتمتد ايضا الي تحقيق ديمقراطية اكثر فعالية. لقد برز توجه آخر حديث يقوده نوبل الاقتصاد آمارتيا سن يركز علي مفهوم القدرات كشرط لتحقيق العدالة, وعلي ان غياب العدالة هي محصلة لعجز في قدرات بعض فئات المجتمع, ويري هذا التوجه في مستويات القدرات للمواطنين المؤشر الرئيسي لتقييم الفروق الاجتماعية داخل المجتمع وكما يلفت نظر صانعي السياسات الي أهمية الارتقاء بقدرات أفراد المجتمع عند وضع برامج محاربة الفقر والبطالة وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية, ويتعامل مفهوم القدرات مع مجمل الحياة الانسانية للمواطن وليس مع الأمور المادية فقط مثل الدخل أو الممتلكات والتي هي في نظر التحليل الاقتصادي التقليدي المؤشر الرئيسي للنجاح الانساني, بما يبرر فشل كثير من التجارب التنموية نظرا لاحتكامها للمفاهيم الاقتصادية البحته كسبيل لتحقيق العدالة الاجتماعية, واما توجه القدرة لتحقيق العدل فيمتد اهتمامه بدءا من وسائل الحياة للفرد ووصولا الي الفرص المتاحة له. يعتبر بذلك تحولا جذريا عن الأسلوب النمطي المتبع في عملية تقييم الرفاهة والعدل في الدراسات الاقتصادية والاجتماعية علي السواء, ففكر توفير القدرات لاالاحتياجات فقط ينظر الي الفقر علي كونه في الاساس حرمان من القدرة. واذا أخذ ذلك في الاعتبار فلابد إذن من تغيير طرق تقييم أداء العمل العام والاهلي بصفة عامة والادارة الحكومية بصفة خاصة في ملف التعامل مع الفقر والعدل الاجتماعي, فالوقاية من الاعاقة علي سبيل المثال هي عملية محورية لتحقيق العدل لأن العجز يعني عدم القدرة, كسوء التغذية للامهات والاطفال الذي يؤدي الي المرض والعاهة نتيجة شح المياة النظيفة, وبالقياس علي ذلك حوادث الطرق واصابات العمل...الخ, وعليه فالتدخل لمنع انتشار مسببات تلك الظواهر هي مساهمة في تحقيق العدالة من خلال الوقاية من العجز وبالتالي اتاحة القدرة, وعليه فان التعليم الاساسي المجاني وبنفس المستوي للكل والرعاية الصحية بنفس القدر للكل يصبحان من اهم اركان العدالة الاجتماعية. إن هذا التسلسل يصل بنا الي مربط الفرس والمراد من هذا المقال, فالعدل الاجتماعي لا يتحقق فقط بوجود مؤسسات عادلة داخل الدولة ولا فقط بسلوكيات جديدة للمجتمع ولا فقط بتوازن السلطة والنفوذ بين مؤسسات متعارضة المصالح ومستقلة عن بعضها, ولكن أيضا وفي الاساس بتمكين قدرات كل المواطنين بما يتيح لهم اقتناء الفرص بدرجة متكافئة, ولاتعني العدالة المساواة في النتائج والمخرجات فتكافئ الفرص للجميع من خلال تمكين القدرات لن يؤدي الي نتائج متساوية للافراد حيث هناك خصائص لكل فرد عند تحقيق مايريده من الحياة, غير ان حديثنا ينصب هنا علي مسار تحقيق العدالة واقتناص الفرص المتاحة بصرف النظر عن النتائج المختلفة التي سيحققها الافراد داخل المجتمع, وبالتالي اذا اردنا في هذه المرحلة المهمة من تاريخ الوطن ان نؤسس مجتمع العدل فعلينا أن نعي ان تحقيق العدالة الاجتماعية التي طالبت بها جماهير ثورة يناير- مرتبط بتوفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية القدرات- للمواطن وهو ما اصطلح علي التعبير عنه بحقوق الرفاهةWelfareRights. المزيد من مقالات شريف دولار