الترجمة والنقل من علوم الحضارات الأجنبية المختلفة الي اللغة العربية, عبر إنشاء مؤسسات حكومية, أو خاصة, مختصة بالترجمة, وإصدار العديد من الكتب المترجمة في مجال الفكر والسياسة والعلوم الحديثة والآداب. وهي ظاهرة تستحق الإشادة والرعاية والدعم, وتعكس نوعا من الوعي بضرورة اللحاق بما ينتج في العالم من أفكار وإبداع وعلوم وغير ذلك, لكن الظاهرة أيضا وعبر ما أنتج أخيرا من ترجمات تحتاج الي التأمل, لرصد العديد من المعوقات والسلبيات التي قد تعطل نتائجها بشكل أو بآخر, أو تؤخر أهدافها علي أقل تقدير. بداية ينبغي التنويه الي بعض نماذج أبرز المؤسسات العربية المهتمة بالترجمة في العالم العربي, وبينها علي سبيل المثال مشروع كلمة في دبي التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم, ومركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية, والمركز القومي للترجمة في مصر ومشروعه الكبير سلسلة المشروع القومي للترجمة, والذي أقام في الشهر الماضي أوسع مؤتمر عالمي للترجمة يقام في القاهرة, حشد له أهم المترجمين والمفكرين من العالم العربي, ونخبة ممتازة من المستشرقين المختصين بالآداب والفنون العربية, ومركز مؤسسة الوحدة العربية في بيروت, وغيرها. فبالرغم من نشاط الترجمة الكبير الذي نستطيع جميعا أن نشعر بحيويته, لكن هذا الجهد, مقارنة لما ينبغي أن يكون عليه, يؤكد أن المؤسسات الثقافية العربية لاتزال تحتاج الي الكثير من مصادر التمويل, والي المزيد من المخصصات المالية, لأن مشروعات الترجمة تتطلب تكاليف عدة, تبدأ من حقوق النشر لدور النشر الأجنبية التي سوف يتم ترجمة كتبها في عصر حقوق الملكية الفكرية, كما تتطلب ميزانيات خاصة بالمترجمين, ثم الطباعة والنشر والتسويق. لذلك فإن السلطات العربية الرسمية عليها أن تأخذ بعين الاعتبار وضع ميزانيات تختص فقط بأعمال الترجمة, بالاضافة الي جهات الدعم وصناديق التنمية والاستثمار الثقافي التي يمكن أن تمنح جزءا من ميزانياتها لمشروعات الترجمة المؤسسية والجادة. من جهة أخري, مازالت هناك ملاحظة عامة تتعلق بمستوي الترجمة, والمترجمين, بسبب نقص الوعي في العالم العربي, لسنوات طويلة, بأهمية الترجمة كوسيلة من أهم وسائل التعرف علي الثقافات الأخري واللحاق بالانتاج المعرفي للعالم. لذا يجب علي المؤسسات الثقافية المختلفة أن ترصد جزءا من ميزانياتها لتدريب المترجمين, الجيدين, علي ان يتم نوع من التعاون بين وزارات الثقافة ووزارات التعليم لرفع مستوي تعليم اللغات الأجنبية في كليات الآداب والتربية والترجمة, وتشجيع الدارسين علي تعلم اللغات المختلفة وبحث سبل التعاون المشترك بين تلك الجهات التعليمية ومؤسسات التعليم الأكاديمية في الدول التي يتم تعلم لغاتها للارتقاء بالمستوي العلمي للدارسين وتحقيق طفرة نوعية في مستوي المترجمين من اللغات الأجنبية الي اللغة العربية, مع ضرورة الاهتمام بالتمكن من زمام اللغة العربية واتقان أسرارها لمن يدخل في هذا الحقل الذي يتطلب الكثير من المعرفة في فنون اللغات والمعارف في كل الفروع. لذلك فإن الجهات الثقافية العربية الحكومية والمؤسسية مطالبة بتنسيق جهدها في أرجاء العالم العربي تلافيا لهدر المال أو الكفاءات, وحتي تؤدي هذه المؤسسات عملها علي أكمل وجه, وتتلافي الازدواجية باعادة ترجمة عمل واحد من أكثر من جهة بسبب عدم التنسيق, وهو مايقتضي ايجاد شبكة اتصال عبر هذه المراكز تقوم بنوع من الاتصال والتنسيق اليومي فيما بينها, بحيث تحقق معا منجزا يمكن للشعوب العربية جميعا أن تفخر به في وقت قياسي. ولا شك أن القضية المتعلقة بتوفير كفاءات في الترجمة ترتبط علي نحو كبير بقضية التمويل, لأن مثل هذه المؤسسات لكي تتمكن من توفير درجة رفيعة من الترجمة عبر اختيار الكفاءات وأصحاب المهارات المميزة, يجب أن توفر لهم دخلا يناسب جهدهم الذي يقدر بالشكل اللائق في كل المجتمعات التي تعي أهمية عمل الترجمة, وبحيث تضمن عدم تشتت جهدهم وتفرغهم الكامل لمشروعات الترجمة التي يعكفون عليها, دون أن يضطروا لتشتيت جهودهم بين أكثر من جهة توفيرا للدخل المناسب. إن المشروعات الثقافية اليوم تحتاج الي أفكار جديدة في إدارات التسويق والترويج تتناسب مع الزيادة المطردة لعدد السكان العرب, وعدد الشباب الذين ينبغي استدراجهم للمعرفة والقراءة بكل السبل الممكنة, والكتاب المترجم واحد من الكتب ذات الأولوية في هذا المضمار, لذلك فإنه من الأهمية بمكان ايجاد لون من ألوان التنسيق بين تلك المراكز والمؤسسات المختلفة القائمة علي مشروعات الترجمة, بحيث يمكنها أن تقيم شبكة توزيع بين جميع الأقطار العربية, وبحيث تتضافر الإمكانات المالية والكوادر البشرية المختصة في التسويق مع منافذ بيع الكتاب في العالم العربي لتحقيق شبكة توزيع تضمن استمرار نشاط الترجمة علي الوجه المأمول منها. إن مشروعات الترجمة, تعني في جوهرها, مساهمة في نقل المجتمعات العربية من عالم التخلف والخرافة وضيق الأفق والجهل الي عوالم أرحب تتسع إلي آفاق المعارف الانسانية الأخري, تري وتتطلع علي ما ينتجه العالم من أفكار ومعارف, بحيث تتخلص من عزلتها الفكرية, ويمكنها ان تشعر بأنها جزء من عالم أكبر وأكثر رحابة هو المجتمع الانساني العالمي, خاصة ونحن اليوم نشهد ثورة هائلة في مجال الاتصال عبر شبكات الاتصال الافتراضية والقنوات المرئية الفضائية التي تراهن يوما بعد آخر علي أن تجعل من العالم قرية صغيرة تحاول أن تقرب بين أفكارها وقيمها ومعارفها. وهكذا ليست الترجمة مجرد عملية مجردة معزولة عن عوامل أخري بقدر ما أنها تمثل عملا دءوبا لتحقيق العديد من شروط نهضة المجتمعات العربية, التي يمكن لها أن تتحقق علي المدي البعيد, من خلال انتشار المعارف والأفكار العلمية والفلسفية والمنجزات الأدبية التي تنجزها الحضارات الأخري المعاصرة يوما بعد آخر, مما يجعل منها قضية بالغة الأهمية لما لها من تأثير في فهم الكثير مما يحتاج اليه الوعي العربي اليوم عن المفاهيم الحقيقية لفكرة الديمقراطية, وحقوق الإنسان وحقوق المعرفة والتعبير عن الرأي, وغير ذلك من عناصر تعد أحد أبرز ما يمكن أن يحظي به مجتمع يسعي للنهضة التي لا خيار آخر نمتلكه كعرب إذا لم نتمكن من تحقيقها. ونأمل أن نصل الي تحقيق تلك النهضة بشروطها العصرية الحقيقية والجوهرية, لا بمجرد استعارة منتجاتها المادية وأشكالها الخارجية وممارستها داخليا علي نحو يتناقض مع فكرة النهضة وينفيها, بل ويضربها في العمق أحيانا.