يستحق عبد الحكيم قاسم عن جدارة لقب صوت المعذبين في الارض.. فقد كانوا همه الحقيقي وكانت معاناتهم والامهم وانينهم وكل تلك التفاصيل والمنمنمات الصغيره التي تزخر بها تفاصيل يومياتهم هي موضوعه الرئيسي. فنحن امام روائي عملاق لم يأخذ حقه من التكريم رغم المكانة البارزة التي يستحقها وسط صدارة المشهد الأدبي العربي, رغم أنه في13 نوفمبر المقبل تمر علي رحيل عبدالحكيم قاسم22 عاما. ولد قاسم في أول يناير1935, ورحل عنا بالجسد عام1990, وما بين الميلاد والرحيل جاءت حياة قاسم كلوحة تعبيرية جسدت الوانها الصارخة كل ما تعرض له من ظلم تراوحت درجاته بين اعتقال لميوله السياسية ونفي إلي المانيا ثم ما كابده بعد عودته من صراع مع المرض حتي وفاته. اما هو فقد كان مبدعا حقيقيا وروائيا واقعيا ومتميزا لم يعش في الأبراج العاجية بل بقي في الظل بعيدا عن الأضواء والنجومية اللتين يستحقهما عن جدارة, حيث عكست أعماله الواقع الحياتي للطبقات الشعبية المسحوقة والمتعطشة الظامئة للحياة والفرح والسعادة وجاءت رواياته وقصصه بلغة شديدة العذوبة لتعبر عن انسان القرية المصرية البسيط في كل آلامه وأحلامه وتفاصيل حياته اليومية أيام الإنسان السبعة ورحلة عبدالحكيم قاسم الأدبية بدأت مع قدومه إلي القاهرة عام1959 حيث بدأ يطرق أبواب النشر فنشر قصته الأولي الصندوق في الآداب البيروتية عام1964, لكن شهرته الحقيقية جاءت مع نشر روايته الأولي أيام الانسان السبعة عام1968 والتي قال عنها الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور إنها أحسن كتاب قرأته في الخمس سنوات الماضية. وأيام الانسان السبعة هي غوص عميق للغاية في عالم الريف المصري بكل تفاصيله وأسراره ودقائقه حيث تسبح الرواية في دنيا موالد الأولياء من خلال توافد أهل القرية لحضور مولد السيد البدوي في طنطا, حيث يشم القاريء رائحة الأرض وتري عيناه بعمق جمال الماء والزرع, كما يعرض من خلالها حكايات الدراويش علي الحصر, والموت, والود في انقطاعه ووصاله. وتعري روايته محاولة للخروج كل مظاهر الفقر والرثاثة والقبح والدمامة في عالم الكادحين, والرواية كما يتضح من عنوانها هي محاولة للخروج من واقع صعب مترد يعيشه البطل إلي حضارة مبهرة وفتية ومسيطرة يمثلها الآخر, وهو الفتاة السويسرية التي تحاول أجتذابه إلي بلادها, الا ان عبدالحكيم قاسم يحسم علي لسان بطله القضية معلنا انحيازه للقرية. وإلي جانب رواياته قدم عبدالحكيم قاسم عددا من المجموعات القصصية مثل الظنون والرؤي, والأشواق والأسي وديوان الملحقات والهجرة لغير المألوف كما أن له مسرحية وحيدة وهي ليل وفانوس ورجال الرسائل تكشف الرسائل التي جمعها وقدمها الناقد والكاتب محمد شعير في كتاب صدر بعد رحيل قاسم بعشرين عاما بعنوان كتابات نوبة الحراسة, عن دار ميريت في القاهرة, النقاب عن ملامح إبداعية وإنسانية جديدة لعبدالحكيم قاسم, تكشف أنه صاحب قلم متميز في مجالات عدة, فكما كان أحد الحكائين المتفردين, فهو أيضا ناثر باهر, وكاتب رسائل من طراز خاص يفاجئ مطالع خطاباته, فهي ليست مجرد كتابات مسترسلة عادية, خطت بصورة متعجلة, بل إبداع داوي به قاسم جراحه خلال فترة الاغتراب في ألمانيا, وشكل من أشكال التشبث بالحياة في الوطن ولو علي ورقة رسالة, وقبل كل ذلك محاولة لهزيمة عذابات الغربة التي قضي فيها قاسم11 عاما(1974 1985) يقول قاسم في إحدي الرسائل ليس بيني وبين الكتابة هذه الغربة, إنما أجد في الحكي لذاذة, أو نجاة, إن سكت أغرق.. أبقي وحدي مع هذه التصورات الغريبة في أعماقي السحيقة, وما أنا بالقادر علي امتلاكها وسبرها حتي أفك طلاسمها, إنها تعمي علي, تحيرني, أنجو إلي أنس الصحاب, أقول حاكيا أو كاتبا, أقول بإلحاح وعصاب, فإن من ورائي الصمت. ويحكي قاسم أنه كانت تمر عليه أيام طويلة من دون أن يجد شخصا يحدثه أو يتحاور معه, علي الأقل خلال الفترة الأولي التي قضاها في الغربة قبل أن يلتئم شمل عائلته, ولذا كانت السلوي هي الرسائل التي يخطها, واللافت في كثير منها أن قاسم كان يستحث أصدقاءه علي مداومة التواصل معه. مشاعر كم من المشاعر المختلطة تجاه خيار الاغتراب الصعب, تحفل بها رسائل قاسم التي كتب بعضها وهو يعمل حارسا ليليا علي أحد متاحف برلين, فثمة حزن وغضب وإحباط, لكائن يحاول إقناع نفسه بما صنع, بأن في تلك الرحلة تحققا من نوع ما, بعد الامتهان والعمل في وظيفة لا تتناسب مع موهبته كمبدع, إذ يجيب أخاه في رسالة عن سؤال: لماذا سافر؟(هل قلت لك أن ثمة احساسا كان لدي بفجوة بين وضعي الاجتماعي كموظف في المعاشات واعتدادي بنفسي كإنسان موهوب, سأعود للقاهرة دكتورا حتي لو لم يكن معي مليم) ولم يكن حلم الحصول علي الشهادة العلمية المرموقة السبب الوحيد الذي من أجله ارتحل قاسم عن مصر, بل رأي في السفر إلي ألمانيا تجربة تستحق خوض غمارها, خصوصا أنه منذ طفولته وهو صاحب ارتحالات, إلا أنها كانت بين ثنايا الوطن, إذ عاش بين أكثر من مكان, فالدراسة توزعت بين مدن مصرية عدة, منها ميت غمر وطنطا والإسكندرية, وكان عمله نهاية في القاهرة مبدع استنائي وتقرب الرسائل عبدالحكيم قاسم الإنسان إلي القارئ, تسلط الضوء علي فصول في حياة ذلك المبدع الاستثنائي, تكشف عن شخصيته, مواطن القوة فيها, ومظاهر ضعفها البشري, عمقها, وحساسيتها المفرطة, وجرأتها, وصدقها الجارح الخشن أحيانا, ثوراتها ومراجعاتها, شأن أغلبية المبدعين. وتلخص الرسائل كذلك آراء قاسم في أعماله هو أولا, وأعمال غيره من المبدعين ثانيا, لتكشف عن ناقد عميق, يغوص في تحليل النصوص الأدبية, محاولا استكناه أسرارها, وليس مجرد متذوق عادي الهم الخاص والعام ويختلط العام بالخاص في رسائل عبدالحكيم قاسم, فالرسالة قد تجمع بين أكثر من شيء, كتابة متحررة, تبدأ من الأمور الشخصية, لتصل إلي الحديث عن الهم العام, ففي إحدي رسائله التي كانت قبيل الاجتياح الاسرائيلي لبيروت يقول بمرارة:إنني الآن أدرك كيف أنني عشت العمر كله أواجه في وطني قهرا حقيقيا وإذلالا حقيقيا, وأعيش مع ناسي مقاومة غير جادة, وثورة مغشوشة, وحماسة مدخولة. العمر كله أمشي في تظاهرات, وأحضر اجتماعات, وأسمع خطابات.. تلك نهاية جيلنا, جيل فشل نهائيا, وعلي كل المستويات, وبعد الانتصار الاسرائيلي, سيكون علي نطاق العالم وضع شاذ مؤداه إذلال أمة كاملة في كل مكان ويعتبر الكاتب والناقدمحمد شعير أن( كتابات نوبة الحراسة) الذي يقع في253 صفحة ليس( سيرة للكاتب الراحل عبدالحكيم قاسم, بقدر ما هي سيرة جيل بأكمله, جيل الأحلام المسروقة, إذ تعكس الرسائل الجو الأدبي الذي نشأ وتكون فيه جيل الستينيات, واللحظات الصعبة التي عاشها أثناء حكم عبدالناصر, ثم حكم السادات, خصوصا بعد كامب ديفيد, مرورا بغزو بيروت وحرب الخليج الأولي.. كل هذا يجعل من هذه الرسائل توثيقا سياسيا واجتماعيا لهذا الجيل, وليس فقط لصاحبها). الرحيل يقول عبد الحكيم قاسم في إهدائه لقصته المهدي: ابنتي إيزيس.. ابني أمير.. أرجو أن تعيشا مصرا أحسن من تلك التي عاشها أبوكما وأن تذكراني. وإذا تأملنا الحياة القصيرة التي عاشها قاسم فسنجدها مفعمة بإبداع عظيم له تميزه الخاص, لقد ظل قارئ عبد الحكيم مع كل عمل جديد ينشر له ينتابه شعور بأنه لم يقل كل ما عنده, وأن جعبة هذا المبدع ما زالت تخبئ الكثير, تحالف المرض الذي داهمه في أخريات حياته مع ظروف حياتية لم تكن ميسرة في كثير من الأحيان.. تحالفا ضده, ووقفا حائلا دون رغبته في البوح بما لديه وشاء القدر برحيله المفاجئ عام1990 عن55 عاما ألا يكتمل هذا المشروع, فبدت حياته التي امتزجت في قصصه كحكاية سطر بدايتها ولم يقدر لها أن تمضي في طريقها للنهاية.