لقد بذل فقهاؤنا القدماء ومن كانوا قبلنا جهودا خارقة لا يمكن أن يتخيلها عقل أو يحيط بها خيال حتي خلفوا لنا تراثا تباهي بها الأمة الإسلامية غيرها من الأمم. فلا توجد أمة في التاريخ ولا في الواقع تملك هذا التراث العظيم الذي هو ثمرة تفاعل العقل مع الوحي بما يحقق مقاصد الشريعة ويراعي مصالح الناس. إن فقهاءنا ومفتينا السابقين قد اجتهدوا لعصرهم, واستنزلوا هدايات الوحي لما يجيب عن إشكالات واقعهم, وما يجيب عن واقعاتهم ومستجداتهم ونوازلهم, ولم يبدأوا من فراغ وإنما أفادوا من اجتهادات السابقين والاستعانة بها بما لا يخالف حكما عاما محكما, وبما يحقق مصالح الخلق. ومن ثم فإن علينا في هذا العصر الذي نعيشه أن نعمل علي تعزيز قدرة الفقهاء المعاصرين أو معظمهم من ناحية, ومن ناحية أخري إيجاد جيل فقهي يمارس الاجتهاد والتجديد وتقديم الإسلام كما هو بمقاصده وحقائقه ومبادئه... وذلك للإجابة عن أسئلة العصر ومعضلات الحياة كما أجاب من سبقونا عن أسئلة عصرهم ومعضلات حياتهم... وإلا فسوف تنحسر حركة الفقه عن الواقع, وينفلت الواقع بعيدا عن مظلة الشريعة, كما نراه اليوم في عصرنا بشكل أو بآخر, وقد تقرر أن من مقاصد الشريعة انتظام الواقع تحت مظلتها. **** ومن الثابت علميا وعقليا أنه ليس كل اجتهادات السابقين تصلح لنا, فبعضها كان له ملابسات خاصة, أو جاء في بيئة معينة, أو لرفع ضرر موجود, أو رعاية لمآل من المآلات, أو إجابة علي واقعة عين, أو واقعة حال.. بما لا تصلح معه أن تستدعي للإجابة علي سؤال معاصر يختلف في ملابساته وطبيعته وحالاته عن السؤال القديم والإجابة عليه. والتراث الفقهي في نظري لا يحتاج إلي تجديد من هذه الناحية, وإنما يحتاج إلي فهم عميق ودقيق.. فهم يقف علي ملابسات الرأي أو الفتوي, وما احتف به من ظروف وأحوال, وطبيعة العصر الذي كان فيه هذا الرأي, والقضايا السيارة التي كانت تشغله, والتيارات التي كانت تعيش فيه, والأحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والثقافية التي كان يمور بها هذا العصر, وهذا لا يتأتي لأي أحد.. إنما لا يكون إلا لأولي العزم من العلماء أصحاب العلم الراسخ والحجة القوية, وأصحاب الذكاء والدقة والإحاطة, والمؤيدين والمسددين من قبل ومن بعد بتوفيق الله تعالي. وهذا هو الطريق الوحيدة لفهم تراثنا, ولاستيعاب ما فيه من آراء وفتاوي وأقوال, والوقوف علي سرها وحقيقتها بما يحول بيننا وبين أن نستدعيها استدعاء مخطئا وخاطئا, أو نجلبها في غير مكانها, فنخطئ في تحقيق المناط, وهو أخطر ما يمكن أن يقع فيه الفقيه في اجتهاد من الاجتهادات. وليس معني هذا أن فقهنا لا يحتاج لتجديد, وإنما أقول إننا بحاجة لفهمه حق الفهم, وهذا الفهم الدقيق والمنضبط والعميق والمستوعب هو الذي سيترتب عليه معرفة ما الذي يحتاج منه لتجديد وما لا يحتاج, وما الذي يحتاج لرد أو تعليق, أو رفض أو قبول; لأن رد بعض الأقوال دون سبر أغوارها هو جناية عظيمة علي الفقه, وعلي الفقهاء في الوقت نفسه.. وهذا لا ينفي وجود بعض الآراء المعارضة لروح الإسلام, ومكمن الخطر فيها أنها تلبست بالأقوال وبعض الحواشي في بعض عصور الانحطاط العلمي والتراجع الحضاري مع إهمال لروح الإسلام وحقائق الشريعة ومقاصدها الكبري, وليس هذا موضع تفصيل القول فيه. إننا نحتاج- بحق- في هذا العصر إلي تجديد الفقيه أكثر من حاجتنا لتجديد الفقه, فتجديد الفقه لن يقوم به إلا فقهاء حقيقيون مجددون يحيطون بعلوم الشريعة من جميع جوانبها, ويعرفون دقائق الواقع بكل تفاصيله. الفقيه الذي ننشده هو الذي ينتقي من اجتهادات السابقين ما يناسب عصرنا.. هو الذي يفقه الواقعة المعاصرة التي يتحدث عنها حتي يحقق مناطها تحقيقا دقيقا يتنزل عليه الحكم تنزلا سليما دقيقا.. هو الذي يراعي المآلات التي يمكن أن يؤول إليها قوله أو تترتب علي فتواه.. هو الذي يفقه المرحلة التي تمر بها الأمة والظرف الدقيق الذي يمر به الناس.. هو الذي يحكم كل هذا بفهم واستلهام وتحكيم مقاصد الشريعة وحقائقها التي توشك أن تعصم الفقيه من الوقوع في الخطأ, والتي تضبط حركة التفكير, وترشد عملية الاجتهاد. ما أحوجنا في هذا العصر إلي إيجاد جيل من الفقهاء المجددين الذي يجددون الفقه, ويجيبون علي أسئلة العصر, ويستشرفون حال المستقبل.. إننا بذلك نكون قد أسدينا خدمة جليلة للعلم والعلماء. د. وصفي عاشور أبوزيد مختص في مقاصد الشريعة الاسلامية ورئيس مركز بناء للبحوث والدراسات