ليس عبثا أو مبالغة أن تطلق عليها اسم مستعمرة الهاربين.. فبرغم أنها مجرد قرية صغيرة علي خريطة قنا, إلا أن واقع الحال يقول إنها حكاية كبيرة.. وأنها عالم آخر من الغرائب والعجائب, فبين أحضان جبالها ووسط زراعات القصب فيها, ينام أعتي المجرمين والهاربين من الأحكام.. منهم الضالع في الإجرام, ومنهم القائل إنه مظلوم. في قرية حمرة دوم بؤر خطيرة للسرقة والخطف والقتل والمخدرات وفي السلاح حدث ولا حرج, فيكفيهم أن لديهم منصة لإطلاق الرشاشات أعلي الجبل مزودة بمناظير للرؤية. ولعل أهم ما يلفت انتباهك بمجرد أن تطأ قدماك قريتي حمرة دوم وأبو خزام الملاصقة لها, تستوقفك المطبات الصناعية التي تشبه المصاطب وقد زرعوها خصيصا حتي يتحكموا في كل السيارات القادمة إليهم, بما فيها سيارات الشرطة ومدرعات الحملات الأمنية. في هذه المنطقة العتية, يتخذ مجموعة من الهاربين أعدادهم بالمئات بطن الجبل ساترا لهم وزراعات القصب مسرحا لتحركاتهم, فمنهم من هرب من الأحكام وهناك آخرون هاربون من الثأر, وقد بلغ الأمر بهم أن أصبحت حمرة دوم مأوي لكل أبناء الصعيد الهاربين. ويروي لنا أهالي القرية الذين يرفضون ذكر أسمائهم أن الشرطة هي السبب وهي التي صنعت من هذه البقعة مستعمرة للهاربين, فقد كانت تستعين بهم في مواجهة الهاربين من جماعات العنف في عقود سابقة, وكان المقابل أن تتركهم ونجح هؤلاء الهاربون فعلا في تصفية عناصر العنف والإرهاب بعدما نصبوا لهم الأكمنة وقبضوا علي العشرات منهم وسلموهم رجال حمرة دوم هدية لوزارة الداخلية, وبعد فترة انقلب السحر علي الساحر, وأصبح هؤلاء الهاربون هدفا للداخلية وتحولوا إلي ذئاب ينامون وأعينهم مفتوحة وأيديهم لا تفارق السلاح, وبمجرد أن يعرفوا بقدوم حملة أمنية يعدون عدتهم ويجهزون لأنفسهم المخابئ البديلة, ويأتي الأمن ويعود وهو يجر أذيال الخوف والخيبة, لأنه عجز عن المواجهة. وبصوت جهوري, صرخ في وجهنا قائلا: أنا صبري الراوي من أبو خزام, لقد بح صوتي وأنا أحمل هذه الكشوف التي تضم عشرات الرجال والهاربين يرغبون في العيش بسلام بعد أن كانوا يعملون لدي الضباط, وكان الأمن يكلفهم بمهمات خارج البلد في محافظات أسوان والبحر الأحمر وغيرها, فضلا عن مدينة نجع حمادي, وكان رجال الداخلية يأتون فقط لاستلام جثث الإرهابيين ثم نفاجأ بحفلات إعلامية ومؤتمرات صحفية, وكنا نقوم أيضا بحماية البنوك والكنائس, وبرغم كل ذلك لم تلتزم الداخلية بالوعد لنا بإصدار العفو الشامل عن هؤلاء الراغبين في العيش بسلام. ولذلك نحن نطلب من الرئيس مرسي إعادة المحاكمات التي كانت تلفق زورا وبهتانا قبل الثورة, وكان الضباط عندما يفشلون في الوصول إلي الجناة الحقيقيين في أي قضية يقيدونها باسم أفراد حمرة دوم, وهو ما جعل العشرات من أبناء العائلات تتجاوز أحكامهم عشرات السنين, ثم أشار بيده إلي شاب لا يتجاوز عمره العشرين عاما, وقال: تخيل هذا الشاب الذي أمامك هارب من أحكام بعشرات السنين ولا يستطيع النزول من الجبل. وهنا قلنا له: لكن هناك عشرات الهاربين في دروب حمرة دوم وأبو خزام ليسوا أبرياء, فهم من المسجلين في أعمال الخطف والسرقة بالإكراه وغيرها من القضايا الجنائية والسلاح. وهنا تدخل راغبا في الكلام أحد الرجال وتحدث بلغة عنيفة قائلا: أنا من المطاريد وأعيش في قلب الجبل, وقد هربت من سجن أبوزعبل في أثناء الثورة, لكنني أقول لك وأقسم بالله أنهم ظلموني قبل الثورة ولفقوا لي قضيتين وكنت أصلي وأدعو عليهم كل يوم. ويضيف أبوحمادة هكذا يلقون عليه كنت في مأمورية عمل في عام2009 وفوجئت بالشرطة تستهدف منزلي ويؤكدون لي أنني مطلوب في قضية مخدرات وأنا لا ذنب لي بها.. وكانت النتيجة أنني ألقيت في السجن, والآن أصبحت طريدا ومطلوب القبض علي. وفي حمرة دوم تجد حياة أخري ومعيشة, لكن المدهش أن تجد أعلي قمة الجبل منصة للأسلحة يتم استخدامها وقت اللزوم, حيث تصوب الرشاشات والمدافع من أعلي حافة الجبل وبمناظير حديثة يكشفون من يدخل القرية, ويكون بسهولة في مرمي نيرانهم. وكما يقول صادق, أحد ساكني الجبل: الموت أصبح أمامنا في أي لحظة, والدولة لم تكلف نفسها أن تنظر إلينا قبل سنوات, وهذا الأمر لابد أن يتغير بعد الثورة, وإما ماذا قدمت الثورة للهاربين أمثالنا يفتحون أعينهم ليلا ونهارا خشية حملة أمنية تهدم منازلهم, لذا فالجبل ليس فيه ما يشغلنا, فلقد اعتدنا العيش بداخله, وهو أحن علينا من أيدي الدولة التي تركتنا. هكذا تركنا صادق أعلي حافة جبل حمرة دوم وهو يستعد للصعود إلي منطقة أخري, خشية أن نكون قد عرفنا مكانه, ولكن قبل أن يصعد قال: البلد كلها فوق الجبل. وفي حمرة دوم أيضا هناك بؤر لخاطفي السيارات, وهم من الهاربين بمحافظات الصعيد, وهؤلاء يعملون بنظام الفدية برغم رفض عشرات العائلات لخطف السيارات, فإن هذه العملية أصبحت تحدث شبه يوميا, وأصبحت حمرة دوم مقصدا لكل من يفقد سيارته تحت تهديد السلاح. والأمر معروف تسليم فدية مالية والأمر زاد بعد حدوث عشرات الحوادث لخطف البشر من قلب منازلهم في بعض الأحيان وبالأسلوب ذاته, وبرغم أن هذه العصابات معروفة للأمن, إلا أن الوصول إليها يحتاج ألف حساب وحساب, وهو ما يلاقي قبولا في أرجاء قرية حمرة دوم فهم يرفضون أن يكونوا محلا للشبهة في عمليات الخطف والسرقة, وفي الوقت نفسه لا يرون عيبا في تجارة أو حمل السلاح. ربما يتساءل أحد: هل الداخلية والقوات المسلحة عاجزة عن مواجهة هؤلاء الخارجين عن القانون خلف جبال حمرة دوم؟.. وبرغم سذاجة السؤال, إلا أن الأمر لا يبدو سهلا, والدليل علي ذلك أن وزير الداخلية كلف بنفسه اللواء إبراهيم صابر, مساعد الوزير لجنوب الصعيد, وهو المعروف بين رجال حمرة دوم باسم صقر الأمن العام ليقود حملة, وهو أيضا يعرف الهاربين بالاسم, ومع ذلك لم يتمكن من القبض علي أحد برغم دخوله القرية تحت غطاء كبير من القوات القتالية, فقد علم المطلوبون جميعهم بموعد وتفاصيل الحملة وفروا هاربين إلي الجبال والقصب, وانتهت الحملة إلي لا شيء. وبرغم أن حمرة دوم مستعمرة حقيقية للهاربين, إلا أن بها الكثيرين من المهمشين والفقراء المعدمين, الذين دفعهم الفقر إلي ارتكاب الجرائم أو المشاركة فيها, وأصبح النهب والسلب بوابتهم للحصول علي لقمة العيش. هذا ما أكده مساعد فارس, أحد أبناء قرية أبو خزام الملاصقة ل حمرة دوم, وأضاف قائلا: نحن هنا نعاني ولا صوت لمن ينادي, وربما لا تركز معنا هنا في بلدنا سوي وزارة واحدة فقط, هي وزارة الداخلية, ولا توجد وزارات أخري تفكر فينا مثل الصحة أو التعليم, كما أن البطالة هي السبب في زيادة النعرة الإجرامية, فنحن نحتاج إلي مخبز وإلي وحدة صحية ومدرسة, وقدمنا أكثر من طلب بتوفير الأرض, ولكن قريتي أبو خزام وحمرة دوم وضعتا تحت الحزام الأمني. بينما قال أحمد نوفل, أحد شباب القرية: ظلمنا كثيرا ولانزال حتي الآن في الخدمات, حتي كيس الكيماوي لمحصول القصب أصبح ممنوعا, والتعامل مع البنك حتي ممن يملكون حيازات بعشرات الأفدنة مرفوض, ولا يوافق لنا أحد علي السلفة من البنك.. كل هذه الأسباب وغيرها ساعدت علي صناعة المجرمين بيننا.