أى مأساة تلك التى تدفع مفكرا عظيما تجاوز الثمانين من عمره إلى أن يذرف الدموع بحرقة كحبات المطر، فى حشد من الناس، بمدينة طنجة المغربية عام 2015، كيف يبكى كطفل أرقه الألم، وهو الفيلسوف الحداثى الفذ الذى بذل جهده لتمهيد الأرضية التاريخية، لإعادة بناء مشروع نهضوى للأمة العربية، ينبع من تربتها وينفتح برحابة على الحضارة الكونية. بكى المفكر السورى الدكتور طيب تيزينى، حتى أبكى سوريا وكل ذى ضمير حى، وراء الدموع فى عيونه وجع رهيب، يتوارى خلف قسمات الوجه الكسير المتغضن، استشعر مصير (زرقاء اليمامة) التى حذرت قومها من الأخطار المحدقة، فلم يعيروها اهتماما، حتى نكبهم الأعداء واقتلعوا عيونها الرائية، بكى الطيب لأنه حذر السوريين، قبل الزمان بزمان، من حمامات دم تمزق أوصال بلدهم، بأيدى نظام أمنى مستبد ومعارضة ليست أكثر من عصابات سلاح متعددة الجنسيات، تحت يافطة الدين والديمقراطية. حلم طيب تيزينى طويلا بدولة وطنية ديمقراطية، فعاش حتى شهد الحلم كابوسا، مع أنه- وهو المتبصر العارف- دق ناقوس الخطر، إلى أن وافته المنية عن خمسة وثمانين عاما، فى 17 مايو الماضي، بمسقط رأسه فى حمص بسوريا. وتقديرا لأفكاره، اعتبرت مؤسسة كونكورديا الفلسفية الألمانية- الفرنسية الدكتور تيزينى واحدا من مائة فيلسوف عالمى بالقرن العشرين، شغل كرسى أستاذية الفلسفة بجامعة دمشق وعدة جامعات عربية، ومن أشهر مؤلفاته: الفكر العربي، من يهوه إلى الله، التراث والثورة، مقدمات أولية فى الإسلام.. كرّس معارفه لاستقراء إشكاليات المجتمع العربي؛ ودفعه للتقدم والرفعة، وأعاد إنضاجها فى دراساته الهرمنيوطيقية قضى تيزينى أكثر من نصف قرن؛ ينتقل، بدأب لا يلين، من فكرة راهنة إلى فكرة أكثر راهنية؛ لب مشروعه الفكرى إعادة إنتاج هوية النهضة العربية فى ظل العولمة، ثالوثه المُقدس: الحرية والكرامة والكفاية المادية، إما أن يتحقق هذا أو أن انفجارا كبيرا سيضرب الدولة والمجتمع، وهو الانفجار الذى مزق سوريا ودولا أخرى بالمنطقة العربية. فى تسعينيات القرن الماضي، ازدادت درجة انفصال الدكتور تيزينى عن السلطة، وبدأ نقده لها يعلو، ملمحا إلى رفضه التوريث، من الأسد الأب إلى الابن، لكن صوته كان متصالحا نسبيا مع السلطة، ثم أخذ التصالح يتلاشى، مع تأييده الصريح الانتفاضة السورية، وإن رفض المواجهة الصدامية مع سلطة الرئيس الأسد، لعلها تصلح نفسها بنفسها وتخضع لمطالب الشعب. وظلت أفكاره إزاء القضايا الوطنية مجالا رحبا لمحاورة التيارات والأيديولوجيات، رأى تيزينى أن فكر (الإسلام السياسي) منى بالفشل الذريع، لأنه انطلق من معطيات سابقة، تفتقد القدرة على ملاءمة الأزمنة الحديثة، لافتا إلى أن الإسلاميين لم يهتموا بقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بشئون دنياكم». فالناس أدرى بما هو نافع وضار فى حياتهم التى تختلف طبيعتها من آن لآخر. نقض تيزينى مواقف السلفية الممجدة للعودة إلى الماضى العريق، أو المعاصرة العدمية المنبهرة بالغرب، أو التلفيقية المعكوسة؛ ميّز الطيب بوضوح بين مرحلتين: الإسلام قياما وولادة، والإسلام وثوبا وحضارة، وفى الحالتين أصر على قراءة قيام الإسلام وحضارته، من فوق منصة الديالكتيك الهيجلي، ببصيرة وشفافية، يكاد يتجلى من خلالها وجه الله سبحانه وتعالى، عبر حركة التاريخ. ولأنه تجرأ على نقد الخطاب المتأسلم وخطاب السلطة المستبدة معا، لقى أسوأ جزاء من الطرفين، شهد عام 2000 واقعة كاشفة بجامعة دمشق، إذ كان مقررا عقد مناظرة فكرية بين الدكتور الطيب تيزينى والشيخ رمضان البوطى عن النقل والاجتهاد، وعند وصول الفيلسوف إلى القاعة المكتظة بأنصار الشيخ، انهالوا عليه بوابل من الشتائم والتهم التكفيرية، وقيل إن سلفيين صلوا صلاة الشهيد، وأمام الوضع المتوتر ألغت الحكومة المناظرة، واعتذر تيزينى عن إكمالها، هنا صاح البوطي: ظهر الحق وزهق الباطل. ومذاك أفرد الخطاب الشعبوى مكانا للطيب بوصفه ممثلا للفكر الإلحادى و(متمردا) على الله ورسوله، فى مقابل فقيه يقوم بمحاولة رد (الزنديق) إلى الصراط المستقيم!. ومع بداية الحراك السورى، وقف تيزينى بمظاهرة سلمية أمام وزارة الداخلية، فى مارس 2011، فانهال عليه رجل أمن بكعب البندقية، قائلا: (بدك حرية خد إياها). دون شفقة بسنوات عمره.. عميت بصيرة النظام وخراف المتأسلمين فى تعاملهم مع دعوات الحرية والديمقراطية والعدالة والإنسانية، من أجل ذلك بكى الطيب أحوال سوريا، دون ضغينة، لأنه يعلم أن بكاء العيون أكبر تأويل للعالم، قنطرة أنطولوجية، قفزة هائلة لكنها بطيئة، تخوضها الروح الفردية القلقة، كى تتطهر الروح الجمعية، وتعبر الهوان والهلاك إلى الكرامة والإبداع، وذاك حديث آخر، رحم الله الطيب تيزينى!!. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن