يبدو أن المشروع الأمريكى لتسوية الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى الذى توافق الجميع على تسميته صفقة القرن سيولد يتيما إن قدر له اكتمال الحمل حتى الولادة الطبيعية أو حتى القيصرية. فبينما المشروع فى مرحلة الحمل بل ومنذ الإعلان عن البدء فى تخليقه تنكر له وتخوف الكثيرون من تداعياته على القضية الفلسطينية أو على مصالحهم فى المنطقة أو على استقرار دولهم. وبصفة عامة، فإن حالة التشكك والتوجس والفتور من جانب البعض لا تنبئ بأن المولود الجديد فى مسار عملية التسوية السلمية للصراع ستكتب له الحياة أو على الأقل فإن عمره لن يكون طويلا، ولن يكون إضافة لأصحابه ولن يحقق ما عجز أسلافه عن تحقيقه. فإسرائيل عبرت عن خشيتها من الصفقة على لسان وزير التعليم نفتالى بينيت رغم أن الصفقة حيكت على مقاس الرؤية الإسرائيلية للتسوية. أما المؤرخ الإسرائيلى مردخاى كيدار، فقال إن صفقة القرن هى الاسم البديل لخطة الفشل. كما أن روبرت ساتلوف مدير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى رأى أن الصفقة قد تكون كارثية بالنسبة لإسرائيل وطالب نيتانياهو بإفسادها! الفتور والتوجس لدى أهل المنطقة نابع فى الأساس من نظرتهم إلى المولود الجديد «صفقة القرن» على أنه نتاج حمل سفاح، أو على الأقل نتاج زواج عرفى ل «مراهقين» لا يعرفون جيدا طبيعة تلك المنطقة وطبيعة الصراع، ولا يقدرون جيدا تبعات مثل هذا الحمل وما قد ينتج عنه. ولعل كل ذلك ما دفع مجلة فورين بوليسى الأمريكية لتؤكد فى تقرير نشرته فى العاشر من أبريل 2019 أن إعلان أو ولادة صفقة القرن فى الوقت الحاضر سيكون كارثة. إضافة إلى تلك الأجواء، فيبدو أن أصحاب الصفقة أنفسهم قد باتوا أقرب إلى التشكك فى إمكانية أن ترى النور. فقد كشفت صحيفة واشنطن بوست فى بداية الشهر الحالى عن شكوك لوزير الخارجية الأمريكية، مايك بومبيو، فى جدوى صفقة القرن لحل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وذلك بقوله: يمكن القول إن الخطة غير قابلة للتحقيق، وقد لا تحقق النتائج، والأهم من ذلك أنه أقر بأن الصفقة يمكن أن تفيد الحكومة الإسرائيلية فقط! وبينما قال بومبيو ذلك، فإن الرئيس ترامب قال فى مؤتمر صحفى تعليقا على بومبيو: أتفهم كلام بومبيو، فأغلب الناس يعتقدون أن الخطة غير قابلة للتنفيذ، ولكننى أعتقد أنها ممكنة التنفيذ. وأضاف: إننا نبذل ما بوسعنا لمساعدة الشرق الأوسط بخطة السلام. تعليق الرئيس الأمريكى يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه يكاد يكون الوحيد ومعه الفريق الضيق طباخ الصفقة بقيادة جاريد كوشنر زوج ابنته الذين ما زال لديهم اعتقاد ما بأن الصفقة قابلة للحياة، ولكن استخدامه لتعبير نبذل ما بوسعنا يعنى أيضا أنه بات قريبا أو على الأقل يؤهل نفسه لتقبل عدم نجاح الصفقة أو عدم نجاحه فى بث الروح فيها. وفى ظل عدم الترحيب العام بالصفقة والنظر إليها على أنها عنوان للفشل، وأنها قد تكون غير قابلة للتنفيذ، وأنها قد تكون كارثة، يبدو أن البديل أو السيناريو الأفضل للصفقة ولجميع الأطراف المعنية بها حاليا هو ألا تولد تلك الصفقة أو وأدها فى مهدها إذا وصلت مرحلة الولادة. ففشل الصفقة يبدو البديل الأكثر آمنا وربحية للجميع باعتبار أن ذلك الفشل هو البديل الذى يضمن لكل الأطراف تحقيق أهدافه أو كثير منها. فالنسبة للفلسطينيين، فإن فشل الصفقة يعنى انتصارا لوجهة نظرها, وسيقدمها للرأى العام الفلسطينى والعربى والدولى على أنها ما زالت قادرة على مواجهة «نزوات» الرئيس الأمريكى وفرملة تحقيق تصور اليمين الإسرائيلى الذى يقوده نيتانياهو الآن لإنهاء القضية الفلسطينية على حساب الفلسطينيين. وبالنسبة للإسرائيليين، فإن فشل الصفقة أو إفشالها يعنى انتصارا لنيتانياهو خاصة فى ظل التسريبات التى أكدت أن الصفقة لم تكن تخرج عن التصور الإسرائيلى اليمينى، ومن المؤكد أن نيتانياهو سيحمل الفلسطينيين مسئولية ذلك الفشل، خاصة فى ظل الترحيب الرسمى الإسرائيلى المعلن بالصفقة، وسيقدم نفسه ودولته للولايات ولدول العالم على أنه هو الراغب فى السلام، بينما الفلسطينيون ليسوا كذلك، وعلى الأرجح سيستخدم ذلك كله فى تعميق الخلاف بين الفلسطينيين والولاياتالمتحدة. أما بالنسبة للولايات المتحدة فإنها بالفعل حققت جزءا مهما من تصورها دعما لإسرائيل من خلال قرارات ترامب بنقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس ومحاصرة الفلسطينيين اقتصاديا وتخففت تماما من دعم الأونروا، وبتبنيها طرح الصفقة لمدة عامين تقريبا تكون قد أكدت اهتمامها بإقرار السلام فى المنطقة. وبصرف النظر عن فشل الصفقة فإن ترامب يكون قد وضع سقفا لن يكون تجاوزه سهلا، سواء على إدارته نفسها خلال ما تبقى لها فى الحكم أو على أى إدارات أخرى مقبلة، فالمكاسب التى حصلت عليها إسرائيل ومن ثم اللوبى اليهودى فى الولاياتالمتحدة لن يكون سهلا التخلى عنها فى أى مقاربة أمريكية أخرى لعملية التسوية للصراع الفلسطينى الإسرائيلى. إضافة إلى ذلك، فإن ترامب سيحمل مسئولية فشل الصفقة إلى كل الأطراف الأخرى باستثنائه هو وإسرائيل، الأمر الذى ربما يعنى مزيدا من الضغط على الفلسطينيين والعديد من الدول العربية. فلماذا يبذل أكثر «مما بوسعه» لتنفيذ مشروع أفشله الآخرون بينما حقق أهدافه أو الجزء الأهم منها؟ أما بالنسبة للدول العربية، فمن المؤكد أن طرح تلك الصفقة قد جاء فى ظل ظروف غير مواتية تمر بها العديد من الدول العربية بما من شأنه أن يضع المزيد من الضغوط عليها، ومن ثم فإن فشل الصفقة أو تأجيلها يعنى تحييد تلك الضغوط، بل إنه قد يساعد بعض الدول فى حل بعض مشكلاتها من خلال تسويق ذلك الفشل على أنه إفشال من جانبها لصفقة لم تكن مرضية حتى وإن كانت مطروحة من جانب ترامب. أما بقية القوى فى المجتمع الدولى فإنها ستشعر بالارتياح لفشل الصفقة التى لم تتخذ موقفا مؤيدا أو مرحبا بها، فأى فشل للرئيس الأمريكى يسعد بالتأكيد تلك القوى، وربما يقنعه بأنه لم يكن من الحكمة استبعادها من ذلك الملف. لمزيد من مقالات د. صبحى عسيلة