«الحل الصعب لا يجدى دائما»..تنطبق هذه المقولة على سياسات التقشف التى اتخذتها الحكومة البريطانية، وهو الأمر الذى تسبب فى كثير من المتاعب لمواطنيها و لاسيما كبار السن، حيث أنه فى الوقت الذى تقوم فيه الدول المتقدمة بزيادة مخصصات الرعاية الصحية والاجتماعية لمواجهة آثار الشيخوخة والانتصار لحق هؤلاء المسنين فى حياة اجتماعية صحية. تقوم بريطانيا خامس أقوى اقتصاد على مستوى العالم بخفض هذه المخصصات، دون النظر إلى التغييرات الديموجرافية فى جميع أنحاء المملكة، والتى تشير إلى أنه سيكون هناك أعداد متزايدة من كبار السن فى المجتمع، مما يعنى صعوبة تلبية احتياجاتهم، وهو الأمر الذى أدى إلى تعظيم الشعور بالعزلة بينهم وخاصة فى مقاطعات الريف البريطانى، والذى بات يطلق عليه مصطلح «الوباء الخفى» طبقا لمنظمة الصليب الأحمر . يأتى ذلك بعد أن قامت بريطانيا بتطبيق سلسلة من سياسات التقشف التى انتهجها حزب المحافظين أثر الأزمة الاقتصادية العالمية التى حدثت فى أواخر عام 2008, لم يكن كبار السن بمعزل عن هذه الإجراءات، حيث أدى تقليص المعاشات، إلى تدهور حالهم بشكل كبير، علاوة على ذلك فإن الحكومة تسارع فى خفض سن التقاعد الحكومى بوتيرة تبعث على القلق. وحذر التقرير الذى نشرته منظمة «هيومن رايتس ووتش» من خطورة الأوضاع التى يعيشها المسنون فى بريطانيا نتيجة عدم حصولهم على المساعدات الكافية لعيش حياة كريمة مستقلة، مما يعرضهم أكثر فأكثر للإصابة بالعزلة وتدهور حالتهم الصحية والعقلية. وأشار التقرير إلى زيادة الشكاوى من تراجع خدمات الرعاية الاجتماعية للمسنين منذ عام 2010 بعد تخفيض تمويل الحكومة المركزية للمجالس المحلية، خاصة أنه من المتوقع أن تتضاعف احتياجات الرعاية الاجتماعية لهم خلال العشرين عاما المقبلة . ويشير تقرير نشرته صحيفة « نيويورك تايمز» الأمريكية إلى أنه قبل قيام الحكومة بهذه الإجراءات التقشفية خلال السنوات الأخيرة، كانت أوضاع كبار السن المعيشية قد تحسنت بشكل كبير حيث ارتفع مستوى معيشتهم فى منتصف التسعينيات و لتنخفض معدلات الفقر بين كبار السن، إلى 13 % إلا أنها سرعان ما عاودت الارتفاع لتصل إلى 16 % فى عام 2015, وأصبح واحد من كل ستة من المتقاعدين يعانى الفقر. ومن المنتظر أن تواجه خدمات الرعاية الاجتماعية لكبار السن فجوة فى التمويل بقيمة 1,5 مليار جنيه إسترلينى خلال هذا العام، فى حين من المتوقع زيادة عدد المسنين الذين يحتاجون إلى رعاية اجتماعية ممولة من القطاع العام بنحو 70% بحلول عام 2035. ويمكن القول إن آثار سياسات التقشف بدت واضحة بشكل كبير فى المناطق الريفية، حيث برزت عزلة السكان الأكبر سنا هناك ، وذلك لأن المجالس المحلية قامت بخفض الميزانيات الخاصة بالرعاية الاجتماعية بمقدار النصف منذ عام2010، كما اختفت حوالى 60 % من خدمات حافلات الرعاية المجتمعية والتى أدى عدم وجودها إلى تعظيم هذه الأزمة. علاوة على ذلك فقد تم إغلاق العديد من مراكز الرعاية الصحية والإجتماعية، ويبرر «بيتر ثورنتون» عضو مجلس الوزراء للشئون المحلية إتخاذ جميع هذه الإجراءات فيقول: «دائما ما يكون تقديم الخدمات للمجتمعات الريفية مكلفًا نظرا لزيادة أعداد السكان فيها». وسلط تقرير «نيويورك تايمز» الضوء على مقاطعة كمبريا التى تضم أماكن تاريخية وطبيعية فائقة الجمال إلا أنها تعد واحدة من أفقر المناطق الريفية فى بريطانيا، حيث تعتبر من بين الأماكن الأكثر حرمانا من الخدمات الأساسية على الإطلاق، فقد سجلت أعلى حالات الطلب على البنوك الغذائية، نتيجة تدابير التقشف التى اتخذتها الحكومة، وعلى الرغم من كل ما تشهده كمبريا من فقر وحرمان فإن مجلس المقاطعة يخطط هذا العام لخفض حوالى 23 مليون دولار من ميزانيتها لتخفيف حدة الانخفاض المتزايد فى التمويل من الحكومة المركزية . على الجانب الآخر أستعرض التقرير أوضاع بعض المسنين الذين تسوء أحوالهم يوما بعد يوما، ويمثلهم روبنسون تريفور ( 77 عاما)، والذى كان يعمل فلاحا ولكنه الآن لا يجد أحد يتحدث اليه لمدة أسابيع متواصلة، ويصف «روبنسون» أحواله قائلا «عندما تقضى كل ثانية بمفردك، فإنك تضيع الوقت» ويضيف قائلا «عليك أن تكون غنيا للبقاء على قيد الحياة هذه الأيام فى الريف البريطانى». أما ستيف فروجلى (69 عاما) كهربائى متقاعد، فيقول:« لقد أختلفت حياتى كثيرا بعد غلق المركز الصحى القريب من محل اقامتى» ، ويضيف فروجلى:«بعد إصابتى بالإلتهاب الرئوى يجب على أن أنفق كافة مدخراتى لتدفئة منزلى». ومما يزيد من صعوبة حياة هؤلاء المسنيين انتقال أبنائهم للإقامة فى المدن بعد تضاؤل فرض حصولهم على عمل، حيث كانوا يقومون بمساعدتهم، فكانوا بالنسبة لهم بمثابة شريان الحياة. ولعل أكثر ما يزعج السكان الأكبر سنا فى كمبريا هو تقلص قطاع الرعاية الصحية، حيث أنه بحلول عام 2020 سيعانى ما يقرب من ربع سكانها من المشكلات الصحية، بعد أن تم إغلاق معظم المستشفيات نتيجة تلقى كمبريا أقل نسبة مخصصات للصحة العامة للفرد فى البلاد، والذى يبلغ حوالى 50 دولارا مقابل 235 دولارا فى لندن، كما أنه فى عام 2016 تم غلق وحدة المرضى المقيمين بمستشفى ألستون بسبب نقص الموظفين نتيجة عزلتها ونقص وسائل النقل .وقد واجه سكان كمبريا حينذاك هذا القرار بمعارضة شديدة لأنها كانت تعد من وجهة نظرهم المكان الوحيد الذى يمكن أن يقضى فيه المرضى أيامهم الأخيرة بين العائلة والأصدقاء.