تغتنم الدول تنظيمها البطولات الرياضية على أرضها كفرصة للترويج السياحى واكتساب ثقل سياسى دولى والتسويق لصورتها العامة أمام المجتمع العالمى. ولكن تنظيم مصر البطولة القارية فى كرة القدم بعد أيام معدودة يفتح لها أبواب مكاسب تتعدى تلك السابق ذكرها، بل يمنحها فرصا عديدة يتحتم اغتنامها وتعظيم مردودها. فلقد عكست الأغلبية فى الأصوات التى تقترب من حد الإجماع على منح مصر حق تنظيم تلك البطولة الثقة التى اكتسبتها جراء استقرار أوضاعها السياسية والأمنية منذ 2013، بالإضافة إلى خبرات مصر الناجحة فى تنظيم مثل تلك البطولات، وكانت بطولة الأمم الإفريقية فى 2006 خير مثال على ذلك. ومن عاصر أحداث هذه البطولة لا يتذكر فقط فوز مصر بكأسها أو حسن تنظيم المسابقة، وإنما لا بد أنه يستدعى أيضا الحالة الوجدانية التى تصاعدت مع أحداثها بين جمهور الشباب وقتها، والتى تعدت مجرد تشجيع المنتخب الوطنى إلى «حالة فى حب مصر»، وذلك فى وقت نالت أسهم الانتقاد من وطنية ذلك الجيل واتهمته بالسطحية والسلبية بعد عزوفه عن المشاركة فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية قبل المسابقة مباشرة. فإذا بهذا الشباب يلتف حول العلم المصرى بشكل غير مسبوق، ويكون هتافه الأكثر دويا أثناء مباريات المنتخب هو فقط اسم «مصر». وقد رصدت دراسة للمركز القومى للبحوث الاجتماعية على عينة من جمهور المباراة النهائية لتلك البطولة وجود نوعية جديدة من الشباب والأسر التى جاءت من أجل تشجيع مصر ولتعبر عن حبها لبلدها فى وقت انسدت فيه أمام تلك الفئة قنوات المشاركة. لذلك رأى المراقبون فى هذا الحضور المكثف صحوة وطنية للشباب المصرى، وطالبوا بتنظيم مشروعات قومية تمتص حماسهم وتعطشهم للمشاركة التى تعد احتياجا إنسانيا أساسيا يرتبط بالبحث عن معنى للحياة إلى جانب كونها واجبا وطنيا واجتماعيا. وتأتى بطولة الأمم الإفريقية هذا العام ونفس الاتهامات تتكرر ليس للشباب وإنما للشعب المصرى ككل؛ بين اتهام بالسلبية والخضوع وأخرى بالكسل وعدم الانتاج، وثالثة بالانهيار الأخلاقى الذى يصل إلى حد العنف. وتكاد تلك الاتهامات تنال من ثقة المصريين بأنفسهم وبقدرتهم على المشاركة فى بناء بلدهم، خاصة أنها تأتى بعد سنوات عجاف تعرض فيها المصريون لجميع أنواع الضغوط النفسية والأمنية والاقتصادية، ومارست فيها «قوى الشر» كل ألوان الدعاية لتشويه صورة مصر عالميا، وضرب وحدة الصف التى تحققت ضد الجماعة الإرهابية وحكامها. ولا زالت هذه الدعاية تتسرب إلى البعض من شبابنا لتنشر بين صفوفهم حالة من عدم اليقين ومن التخلى عن انتمائهم لوطنهم. من هنا تأتى أهمية الفرصة التى يتيحها تنظيم بطولة الأمم الإفريقية على أرض مصر فى استعادة الشباب المصرى إيمانه بوطنه وتدعيم ثقته بقدرات أبنائه، والاستفادة من حاجتهم الملحة إلى المشاركة بإتاحة الفرصة أمامهم للمساهمة فى تنظيم البطولة والاستفادة من طاقاتهم المتفجرة والمتلهفة للعمل العام والعطاء للوطن. وعلى الصعيد الإفريقى تأتى البطولة كفرصة لتستعيد بها مصر ما انقطع من علاقات مع شعوب القارة لعقود طويلة، فالرصيد الهائل الذى اكتسبته مصر فى حقبة التحرر الإفريقى قد تم إهداره والتفريط فيه منذ حادث أديس أبابا عام 1995، حيث فقدت مصر تأثير قوتها الناعمة فى المحيط الإقليمى نظرا لخضوع الاتصال الثقافى بمعناه الواسع لعوامل التوافق أو العداء السياسى بين النظام المصرى والأنظمة الإفريقية، وتأثره فى حركته وفاعليته بهذه العوامل، الأمر الذى لم يكن فى مصلحة ترسيخ الصلات بالشعوب الإفريقية. وإذا كانت الرياضة أحد مجالات التواصل والتلاحم الثقافى بين الشعوب، فإن ممارسات بعض الإعلاميين قد حولتها إلى منزلق لمزيد من التباعد بين مصر وشقيقاتها فى القارة الإفريقية بإصرار البعض على استخدام التعبيرات الاستعمارية كالقارة «السوداء» أو القارة «المظلمة»، وحديث بعض البرامج عن «أسياد إفريقيا» وركونها لروح التعالى على المنافسين، وتغليب الصور النمطية السلبية عن الأفارقة بغير وعى بمردود ذلك وتكريسه الفرقة بين شعوب القارة. وقد شكا بعض السفراء الأفارقة مرارا للخارجية المصرية من هذه التوجهات وانتقدوا تأثيرها على الجفاء بين مصر وشعوب القارة على المستويين الإنسانى والرسمى أيضا. وتأتى البطولة الإفريقية ومصر تترأس هذا العام الاتحاد الإفريقى بعد سنوات معدودة من تعليق الاتحاد الإفريقى مشاركة مصر فى أنشطة الاتحاد، وانسياقه وراء الحملة الغربية التى ادعت عدم دستورية إزاحة جماعة الإخوان من الحكم. وقد جاء هذا التحول فى الموقف الإفريقى نتيجة لجهود حثيثة من العمل السياسى والدبلوماسى، ولكن العامل الحاسم فيه كان ثبات الشعب المصرى وصموده مع جيشه أمام المحاولات المتتالية لعزل مصر ومحاصرتها اقتصاديا وسياسيا، حيث فرض الشعب فى النهاية احترام إرادته على الجميع. ولا بد لمن يتابع التطورات الجارية فى العلاقات المصرية الإفريقية من أن يثمن التحول الكبير الذى جرى فى موقف المؤسسات الإفريقية الرسمية والأهلية تجاه مصر منذ ثورة 30 يونيو، ومن ثم فإنه من غير المقبول أن يتم السماح بممارسات إعلامية قد تنتقص من هذا الجهد الكبير وتؤثر سلبا على مكتسباته، بل إن هذا الجهد السياسى والدبلوماسى بحاجة إلى بناء الأرضية الصلبة من التواصل الثقافى والإنسانى مع شعوب القارة ليضمن له الإستمرارية، كما يحتاج إلى جهد أكبر لتعميق الهوية الإفريقية كأحد مكونات الشخصية المصرية، وتلك قضية ربما تحتاج إلى مزيد من النقاش والتحليل فيما بعد. إن البطولة الإفريقية ستضع مصر وشعبها تحت منظار العالم ومتابعته لعدة أسابيع، ومكانة مصر بين الأمم وتاريخها الطويل كنموذج يحتذى يحتم عليها أن تغتنم كل الفرص التى تتيحها تلك البطولة رياضيا وسياسيا وإنسانيا. لمزيد من مقالات د.نجوى أمين الفوال