كان ابن تيمية يهاجم الصوفيين الذين يعتنقون مذهب محيى الدين ابن عربى ذلك المذهب الذى يقول بوحدة الوجود. فالموجود واحد، والمخلوق اذا أحب الخالق حل فيه الخالق، وعندما يصل إلى درجة الحب يصل إلى غيبوبة هى السكر. وهى وحدة الشهود كوحدة الوجود، وعندما يصير المتصوف الى هذا الحال يصبح صاحب حال. وحكم صاحب الحال كما يقول ابن عربي: هو حكم المجنون الذى ارتفع عنه القلم، فلا يكتب له ولا عليه. والله يعلم من عباده المحبين له أنهم غير مطالبين بالقيام بما كلفهم به، فأسقط عنهم التكليف. أى أحل لهم ما حرم على غيرهم. وأذن لهم أن يفعلوا ما يشاءون. وكان من الطبيعى أن يهاجم ابن تيمية المشهور بتشدده هذه الآراء، ويتهمها بالخروج الصريح على الدين، وقال: إن هذا الاتحاد فى الله والفناء فيه الذى يقول به ابن عربى واتباعه، واعتبار وجود المخلوق هو وجود الخالق، هو قول أهل الالحاد الذين هم أضل العباد. وفناء المعبود فى العابد والمحب فى المحبوب، وحالة السكر التى يغيب فيها الإنسان عن نفسه. ليست من لوازم الطريق إلى الله، ولو كانت كذلك لحدثت للرسول وصحابته. والفناء الذى يدعو إليه السلف الصالح من الزهاد والمتصوفة، هو فناء العبدفى الطاعة بحيث يكون الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما. واقتنع جمهور الشيخ ابن تيمية وتلاميذه بآرائه وراحوا يرددون حججه ويسخرون من الصوفيين. لكن كان البعض من كبراء مصر يعتبرون ابن عربى إماما للدين، وعلى رأس هؤلاء الشيخ المنجى شيخ الأمير بيبيرس الجاشنكير، وابن عطاء الله السكندرى المتصوف الشهير. وذهب ابن عطاء الله والشيخ المنجى إلى القلعة وقالا أن ابن تيمية يطعن فى الصوفية ويحرض طلاب العلم عليها، وطالبا بمحاكمته. وبالفعل عقدت المحكمة من قضاة المذاهب الأربعة وبعض العلماء كما يذكر عبدالرحمن الشرقاوى فى كتابه عن ابن تيمية. وأمام المحكمة قال ابن عطاء الله السكندرى: الفقيه ابن تيميه ينكر الاستغاثة بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة فهو ضلال. وقال ابن تيمية: لم يصح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حديث واحد أمرنا فيه باستغاثته. بل صح عنه النهى عن ذلك. فقد نصح ابن عمه عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب انه اذا استغاث فليستغث بالله، وإذا استعان فليستعن بالله، فما يغنى عنه من الله شيئا.. والآيات القطعية الدلالة فى القرآن تأمرنا بأن نستغيث بالله وحده، فهو المغيث وهذا من أسمائه الحسنى التى لا شريك له فيها. وقال ابن عطاء الله: نعم لا يستغاث إلا بالله، ولا يستغاث بالنبى بمعنى العبارة، ولكن يتوسل به ويتشفع به. وقد جاء فى الأحاديث الصحاح انه (صلى الله عليه وسلم) رزق الشفاعة وهو حديث جاء فى مسند أحمد. وتشاور العلماء الموجودون لكنهم لم يجدوا تهمة يوجهونها للفقيه، بينما صمم أحد القضاة من أتباع بيبرس ان يحكم بسجن الشيخ أو جلده. وهنا قال قاضى القضاة: أما أن يكون ما قاله كفر فالحكم ان يقتل به، وأما أنه لا شىء فيه فلا موجب للحكم بسجنه.. وما قاله ابن تيمية هو فى الحقيقة قلة أدب. وقد قلتها له. ثم طلب منه القاضى أن ينصرف إلى حاله.. وربما يكون هذا الحكم أغرب حكم فى تاريخ القضاء، لكنه بالتأكيد يمتاز بالحكمة والدهاء، فقد رفض ان يسجن الفقيه المتشدد،لكنه وجه له إهانة شديدة اراحت القاضى المتشدد وأنصار الصوفية. وتلك حكمة القاضى الذى يملك حصافة تنقذ الرقاب. لمزيد من مقالات محسن عبدالعزيز