استعدادا لشم النسيم ..رفع درجة الاستعداد بالمستشفيات الجامعية    سعر الدينار الكويتي اليوم الأحد 5-5-2024 مقابل الجنيه في البنك الأهلي بالتزامن مع إجازة عيد القيامة والعمال    وزير المالية: 3.5 مليار جنيه لدعم الكهرباء وشركات المياه و657 مليون ل«المزارعين»    وزيرة إسرائيلية تهاجم أمريكا: لا تستحق صفة صديق    تشكيل ليفربول المتوقع ضد توتنهام.. هل يشارك محمد صلاح أساسيًا؟    الاتحاد يواصل تدريباته استعدادًا لمواجهة الأهلي.. وأتوبيسات مجانية للجماهير    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثي سير منفصلين بالشرقية    الإسكان: 98 قرارًا لاعتماد التصميم العمراني والتخطيط ل 4232 فدانًا بالمدن الجديدة    «الري»: انطلاق المرحلة الثانية من برنامج تعزيز التكيف مع التغيرات المناخية في الساحل الشمالي والدلتا    الإسكان تنظم ورش عمل حول تطبيق قانون التصالح في مخالفات البناء    استقرار ملحوظ في سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه المصري اليوم    العمل: توفير 14 ألف وظيفة لذوي الهمم.. و3400 فرصة جديدة ب55 شركة    ماكرون يطالب بفتح مجال التفاوض مع روسيا للوصول لحل آمن لجميع الأطراف    مسؤول أممي: تهديد قضاة «الجنائية الدولية» انتهاك صارخ لاستقلالية المحكمة    أوكرانيا تسقط 23 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    رئيس الوزراء الياباني: ليس هناك خطط لحل البرلمان    قصف مدفعي إسرائيلي على الحدود اللبنانية    يصل إلى 50 شهاباً في السماء.. «الجمعية الفلكية» تعلن موعد ذروة «إيتا الدلويات 2024» (تفاصيل)    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    اتحاد القبائل العربية: نقف صفًا واحدًا خلف القيادة السياسية والقوات المسلحة «مدينة السيسي» هدية جديدة من الرئيس لأرض الفيروز    فيديو.. شعبة بيض المائدة: نترقب مزيدا من انخفاض الأسعار في شهر أكتوبر    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    كرة طائرة - مريم متولي: غير صحيح طلبي العودة ل الأهلي بل إدارتهم من تواصلت معنا    «شوبير» يكشف حقيقة رفض الشناوي المشاركة مع الأهلي    شوبير يكشف مفاجأة حول أول الراحلين عن الأهلي بنهاية الموسم    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأحد في الأسواق (موقع رسمي)    الزراعة: حديقة الأسماك تستعد لاستقبال المواطنين في عيد شم النسيم    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    حدائق القاهرة: زيادة منافذ بيع التذاكر لعدم تكدس المواطنيين أمام بوابات الحدائق وإلغاء إجازات العاملين    التصريح بدفن شخص لقي مصرعه متأثرا بإصابته في حادث بالشرقية    السيطرة على حريق التهم مخزن قطن داخل منزل في الشرقية    وفاة كهربائي صعقه التيار بسوهاج    نجل الطبلاوي: والدي كان يوصينا بحفظ القرآن واتباع سنة النبي محمد (فيديو)    يعود لعصر الفراعنة.. خبير آثار: «شم النسيم» أقدم عيد شعبي في مصر    تامر حسني يدعم شابا ويرتدي تي شيرت من صنعه خلال حفله بالعين السخنة    سرب الوطنية والكرامة    الكاتبة فاطمة المعدول تتعرض لأزمة صحية وتعلن خضوعها لعملية جراحية    حكيم ومحمد عدوية اليوم في حفل ليالي مصر أحتفالا بأعياد الربيع    رئيس «الرعاية الصحية» يبحث تعزيز التعاون مع ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة    صحة الإسماعيلية تنظم مسابقات وتقدم الهدايا للأطفال خلال الاحتفال بعيد القيامة (صور)    أخبار الأهلي: تحرك جديد من اتحاد الكرة في أزمة الشيبي والشحات    وزير شئون المجالس النيابية يحضر قداس عيد القيامة المجيد ..صور    إنقاذ العالقين فوق أسطح المباني في البرازيل بسبب الفيضانات|فيديو    كريم فهمي: مكنتش متخيل أن أمي ممكن تتزوج مرة تانية    مخاوف في أمريكا.. ظهور أعراض وباء مميت على مزارع بولاية تكساس    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات فاروق حسنى
نشر في الأهرام اليومي يوم 31 - 05 - 2019

لم أكن أعرف فاروق حسنى المولود فى 8 يناير 1938 ولا قابلته عندما صدر قرار تعيينه وزيرًا للثقافة فى الثانى عشر من أكتوبر 1987، فقد كنتُ أعمل فى جامعة الكويت، عميدًا مُساعدًا للبحث العلمى. ولم يمر قرار تعيينه مرور الكرام كما هو معتاد، وكما حدث مع الوزراء السابقين عليه، فما صحب قرار تعيينه من ثورة كبار المثقفين أمثال عبدالرحمن الشرقاوى وثروت أباظة وغيرهما، كان لافتًا للانتباه وكان دافعًا لى عن السؤال عنه وعن أسباب هذا الرفض الذى ووجِه به رغم أنه كان وزير ثقافة لا تميزه ميزة عن غيره سوى أنه كان أصغر سنًّا من الوزراء العاديين الذين سبقوه والذين عاصروه والذين لحقوا به على السواء. فلم يكن الرجل قد أكمل الخمسين من عمره بعد. لكن حدة الهجوم عليه من أمثال عبدالرحمن الشرقاوى وأقرانه هو ما دفعنى إلى الالتفات إلى حضوره المؤثر وإلى الحدة فى الهجوم عليه.
..............................................
ومضت الأشهر وعدتُ إلى القاهرة بعد حوالى عام من تعيين فاروق حسنى، وكان ذلك فى شهر يونيو 1988، حيث عدت إلى القاهرة، وتوليتُ الإشراف على قسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة بعد وفاة أستاذى المرحوم عبدالمحسن طه بدر، وفى الوقت نفسه عُدتُ إلى مجلة «فصول» التى أصبحتُ رئيسًا لتحريرها بالاشتراك مع الزميلة العزيزة هدى وصفى. ومرت الأشهر وفوجئتُ بدعوة من هدى وصفى على العشاء ولقاء الوزير الذى كان يثير العواصف وردود الفعل المتباينة أينما حل، وحرصت الدكتورة هدى وصفى على أن تجمع ما بيننا لكى نتحدث عن أوضاع الثقافة الحالية وعن إمكانات تطويرها فى آن. وأشهد أن الرجل كان مقنعًا وترك فى نفسى أثرًا لافتًا سواء من حيث ثقته بنفسه ومن حيث قدرته على مواجهة العواصف التى أثارها قرار تعيينه وزيرًا. فما إن أُعلِن حسنى وزيرًا للثقافة حتى وجد نفسه فى مرمى نيران فُتحت عليه من جميع الجهات وبدأها عبدالرحمن الشرقاوى فى صحيفة الوفد رافضًا قبوله قائلًا: «نحن لا نعرف من يكون؟»، وتوالت الطلقات من كُتّاب آخرين صُدِموا على ما يبدو من تعيين فنان تشكيلى وزيرًا للثقافة، وكان المنصب عادة من نصيب الأدباء مثل يوسف السباعى وعبدالمنعم الصاوى، أو من نصيب شخصيات عامة مثل ثروت عكاشة وعبدالقادر حاتم ومنصور حسن. يُضاف إلى ذلك أن فاروق حسنى كان مجهولًا بالنسبة للأوساط الثقافية لغيابه عن مصر وعزلته عنها، بجانب أنه لم يكن قد وصل إلى سن الخمسين عندما أصبح وزيرًا. ولكن على الجانب الآخر تشكلت جبهة للدفاع عن حسنى قادها موسى صبرى وساندها منصور حسن وتوسط كرم مطاوع بينه وبين الشرقاوى. وكان مطاوع قد أخرج أكثر من مسرحية للشرقاوى وتكونت بينهما صداقة متينة. وقد ذهب فاروق حسنى إلى عبدالرحمن الشرقاوى فى بيته بصحبة كرم مطاوع واستمع منه لرؤيته الثقافية، وطال الحديث الذى أداره فاروق حسنى ببراعة كاشفًا عن خبرات حصدها فى الخارج يمكن الاستفادة منها فى تنمية الثقافة فى مصر، وأنصت الشرقاوى طويلًا حتى اقتنع. وحسب ما ذكره فاروق حسنى فى حواره مع انتصار دردير فإن الشرقاوى قام وقبَّله مرتين، وأقام بعد ذلك وليمة عشاء تكريمًا له دعا إليها عددًا من الكُتّاب والفنانين وقال جملته الشهيرة: «لقد غرر بى». وفى اليوم التالى اقترح الدكتور سمير سرحان، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، عقد لقاء موسَّع مع المثقفين بمكتبه حضره مائة وعشرون مدعوًا ولم يحضره ثروت أباظة الذى ظل رافضًا لوجود فاروق حسنى فى منصبه، وكتب مقالًا بعنوان «وجوم» عبَّر فيه بتلك الكلمة عن مشاعره بعد تلقى نبأ تعيين فاروق حسنى وزيرًا للثقافة. وبفروسية الشرقاوى كتب مقالًا آخر فى الوفد صحَّح فيه موقفه من حسنى مؤكدًا أنه نال الكثير من التشهير ممن كانوا ينتظرون منصب وزير الثقافة لأنفسهم.
وكنتُ أتوقع أن يحكى لى فاروق حسنى عن هذه المعارك التى لم أكن شاهدًا عليها، لكنه أخذ يحدِّثنى عن أشياء أخرى وعن أفكاره الخاصة بتطوير العمل فى وزارة الثقافة. وانتهى الحوار بيننا دون وعد بلقاء آخر. ويبدو أن فاروق حسنى الوزير أخذ يسأل عنى من يعرفوننى من كبار المثقفين وعلى رأسهم المرحوم لطفى الخولى الذى كنتُ أعمل معه أمينًا مساعدًا للشعبة المصرية لكُتّاب آسيا وأفريقيا. وكانت شعبة نشطة تقوم بتزويد اتحاد كُتّاب آسيا وإفريقيا بالحيوية والنشاط والحماسة فى العمل، وهو الأمر الذى دعم علاقاتى الشخصية بلطفى الخولى وغيره من كبار كُتّاب اليسار المصرى الذين كنتُ أعرفهم معرفة وثيقة بحكم انتسابى أو إيمانى بعدد من أفكارهم فى ذلك الوقت.
ومرت الأيام وإذا بى أتلقى مكالمة هاتفية من المرحوم لطفى الخولى يحدثنى فيها حديث الإعجاب عن فاروق حسنى، ويطلب منى الموافقة على الذهاب لمقابلته، وعدم التردد فى قبول العمل معه. وبالفعل فوجئتُ باتصال تليفونى من مكتب فاروق حسنى ودعوة للقائه، فذهبتُ إلى اللقاء وقابلتُه فى المكتب الذى لا يزال قائمًا إلى اليوم. وأخذ يحدثنى عن المجلس الأعلى للثقافة وتصوره للأدوار التى يمكن أن يقوم بها. وفى الوقت نفسه أخذ يحدثنى عن أحلامه لوزارة الثقافة والإنجازات التى يمكن أن تحققها لو سارت فى الطريق الذى كان يحلم به فى ذلك الوقت.
والحق أن كلامه أعجبنى ورأيتُ فيه خيالًا جَسورًا طموحًا للانتقال من وهاد الضرورة الثقافية إلى آفاق الحرية. فبقدر ما أعجبتنى النزعة الليبرالية المُنفتحة التى كانت تنطوى عليها أحلامه، أعجبنى أنه وزير يمتلك رؤية واضحة عن الوزارة التى يقع فيها موقع المايسترو. وكان هذا يؤكد لى أنه وزير يمتلك رؤية ثقافية شمولية عميقة، ولم أجد فى ذلك غرابة لأنه حدثنى عن تلمذته على ثروت عكاشة، وكيف أن ثروت عكاشة فتح له طريق البداية عندما عيَّنه وهو شاب يافع إلى أبعد حد مديرًا لقصر ثقافة الأنفوشى الذى لا يزال فاروق حسنى يذكر إنجازاته فيه بكل المحبة والعرفان والامتنان. والحق أننى كنتُ ولا أزال أعتبر نفسى من تلامذة ثروت عكاشة فى العمل الثقافى العام، وعلى مستوى الإنجاز العلمى الخاص. وقد عرفتُ ثروت عكاشة قبل أن أعرف فاروق حسنى بسنوات عديدة ترجع إلى الخمسينيات الباكرة حين كتب كتابه «إعصار من الشرق: جنكيز خان» الذى نشره سنة 1951، وترجمته رواية «سروال القس» ل ثورن سميث سنة 1952، تلك الرواية التى لا أزال أذكر ظرفها وإحساسها الفكه بالحياة والأحياء.
ولم أملك فى النهاية سوى الموافقة على طلبه أن أتولى الإشراف على المجلس الأعلى للثقافة، مُشترطًا أولًا أن أعمل معه لمدة زمنية محدودة أعود بعدها إلى الجامعة، وثانيًا أن تُترك لى حرية العمل دون تدخل من أحد غيره، وثالثًا أن يدعمنى ماليًّا لتحقيق رؤيتى التى تطابقت مع رؤيته فى تصور مستقبلى مختلف لآفاق العمل فى المجلس الأعلى للثقافة. والحق أن فاروق حسنى وافق على كل ما قلتُ وكانت الحماسة بادية على وجهه بما قارب بيننا فى الحلم بمستقبل ثقافى لا حدود له فى المجلس الأعلى للثقافة. وبعد أيام قليلة صدر القرار الوزارى بتعيينى أمينًا عامًّا للمجلس الأعلى للثقافة فى 24 يناير سنة 1993. وأعترف بأن الرجل لم يُقصِّر قط فيما كنتُ أطلبه منه من دعم مالى. وبدأ عمل المجلس ينشط وتمتد فعالياته وأنشطته فى دوائر ثلاث. الدائرة الوطنية والدائرة القومية والدائرة العالمية. وقد شرحتُ تصورى للعلاقة بين هذه الدوائر فى أحد المقالات التى نشرتُها بهذه الجريدة. (راجع الأهرام «دوائر الثقافة المصرية» 31/8/2018 ).
ولم يبخل عليَّ فاروق حسنى بالدعم المالى أو المعنوى. وهنا أدركتُ الصفة الأولى التى قاربت بينى وبينه على المستوى الشخصى، فهو رجل معتد بشخصيته، قوى برؤيته الشاملة التى تحدد أساسيات العمل فى وزارته. ولذلك لم يخشَ الأقوياء أو يخاف منهم، بل كان يملك القدرة على جمعهم من حوله وإعطائهم كل الصلاحيات والقدرات التى تُمكِّنهم من النجاح فى أعمالهم، ولذلك كان يردد كثيرًا مقولة «إن كل القيادات الثقافية العاملة معى هى وزراء للثقافة». وهذا بالفعل ما كان يؤمن به كل الإيمان، وما كان يظهر فى تعامله معنا جميعًا، ومعى على وجه الخصوص. ولا أذكر أنه قد تدخل فى اختيارات اسم من الأسماء العربية أو الأجنبية التى كنتُ أدعوها إلى حضور مؤتمرات المجلس، فقد كان يقول لى دائما «أنت أعرف منى بهذه الأسماء وأكثر خبرة بالمثقفين العرب وأقدارهم». وبقدر ما كنتُ أقدِّم له قوائم المثقفين المدعوين إلى أنشطة المجلس كان يوافق عليها فورًا ودون مراجعة.
هكذا أكد فى داخلى معنى الثقة المتبادلة واحترامها إلى أبعد حد. ولا أظننى خذلته فى اختيار ألمع الأسماء على مستوى الثقافة العربية أو حتى الثقافات غير العربية. وتنامت بيننا الثقة المتبادلة، وذلك على النحو الذى جعله يوافق على الفور وبدون تردد على ضرورة أن ننتقل من مبنى المجلس القديم فى شارع حسن صبرى بالزمالك إلى حيث مبنى المجلس الجديد الذى لا يزال قائمًا شامخًا، هو نفسه بمثابة متحف لكل التيارات الفنية الحديثة، ابتداء من محمود سعيد وليس انتهاء بأعمال ما بعد الحداثة وغيرها من تيارات الفن التشكيلى.
وأذكر أننى عندما عرضتُ عليه فكرة إنشاء المشروع القومى للترجمة، قد تحمَّس للمشروع كل الحماسة بعد أن شرحتُهُ له، وطلب بالبدء على الفور وبذل أقصى الاستطاعة لإنجاح المشروع. وبالفعل بدأتُ العمل فى هذا المشروع الذى ما إن طبع ما يقرب من ألف كتاب حتى وافق فاروق حسنى على إنشاء مؤتمر دولى للترجمة، نعلن فيه إنشاء المركز القومى للترجمة الذى طالبنى بأن أبقى فيه بعد أن وصلتُ إلى سن المعاش فى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة. وهذا ما تم بالفعل، وكان ذلك بفضل السيدة سوزان مبارك التى ينبغى أن نعترف بما فعلته للثقافة المصرية إذا أردنا أن نصدق الشهادة الحقة للتاريخ الذى سوف يحصى علينا إيجابياتنا وسلبياتنا.
أما الوجه الآخر الذى كان يقارب ما بينى وبين فاروق حسنى فى الأفكار، فهو أنه كان يؤمن دائمًا بأن الثقافة المصرية هى ثقافة دولة عظمى وليست ثقافة دولة عادية. ومن المؤكد أنه قد قرأ كتاب جمال حمدان «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان»، عن عبقرية مصر من حيث تعامدها على المكان الذى لا ينفصل عن زمان ممتد من التقدم. ولم يكن الأمر يقتصر فى ذلك على معرفة عميقة بالآثار المصرية، ولا على معرفة قريبة بالإبداع المصرى فى هذا الجانب التشكيلى أو ذاك الجانب الأدبى، وإنما كان يجاوز ذلك إلى معرفة كلية متكاملة لا ينفصل فيها الزمان عن المكان ولا جهد الإنسان بقابلية الطبيعة على التشكل حسب إرادة هذا الإنسان، وكانت معرفته الثقافية بالغة العمق بالتاريخ الفرعونى والإسلامى بالشكل العام جنبًا إلى جنب المعرفة الموازية بالمنجزات الفكرية والإبداعية للمثقفين المصريين عبر العصور الممتدة لمصر فى تاريخها الممتد.. وكنتُ أوافقه ولا أزال على هذه النظرة كل الموافقة، كما لا أزال أوافقه على أن مصر دولة عظمى ثقافيًّا وحضاريًّا، وأن حكوماتها المتعاقبة لم تصل إلى مستوى التحديات التى تفرضها هذه الرؤية الثقافية التى تسعى إلى التحقق فى الوجود وعلى أرض الواقع.
وكان يتفرع عن هذه الصفة، صفة أخرى هى الحلم الذى ينطلق فيه الخيال طليقًا حرًّا لتخيل مستقبل لا يقل أصالة أو إبداعًا عن أقدم عصور الحضارة والثقافة المصرية. ولذلك كان ولا يزال ينظر إلى الثقافة المصرية نظرة كلية لا تفصل بين المادى والمعنوى، وإنما كان ينظر إلى التاريخ المصرى الحضارى بوصفه تاريخًا متجاوب الأجزاء، متفاعل العلاقات، فكان ولا يزال ضد التمييز بين الآثار المادية والآثار المعنوية. كان يسمى هذه وتلك بالثقافة المصرية المتحدة فى قدمها وحداثتها على السواء، وأن كل الفارق بين ما نسميه «الآثار» وما نسميه «الثقافة»، ليس سوى الفارق بين وجهين لعملة واحدة، ينتسب وجهها الأول إلى الثقافة المعنوية، بينما ينتسب وجهها الثانى إلى الثقافة المادية.
ولا أظن أن هناك أحدًا شعر بالحزن كما شعر فاروق حسنى عندما رأى هذا الفصل التعسفى لوزارة الثقافة عن وزارة الآثار. وكيف تحول الاثنان إلى وجهين منفصلين لعملة واحدة لا يمكن الفصل بين وجهيها. ولا أزال مثله أشعر بخطر هذا الفصل ونتائجه السلبية على الوعى الوطنى المصرى فى تكامله وتفاعل أجزائه وعلاقاته داخل الرؤية الوطنية التى تتأسس بها معانى الحضور الخلاق للثقافة المصرية. أعنى الحضور الذى يجعل من مصر فعلًا دولة من الدول العظمى ثقافيًّا وماديًّا ومعنويًّا. فآثارنا القديمة تجاوز ما يقرب من ثلثى آثار العالم كله، وعقولنا الحديثة تباهى بما أنجزه طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعلى مصطفى مشرفة وسميرة موسى، كما تباهى بما أنجزه أحمد زويل ومحمد غنيم ومجدى يعقوب وغيرهم بما يجعل منها مصر الحضارة التى لا تنقسم أو تتجزأ إلا فى أعين وأذهان أصحاب العقول الضيقة الساعية وراء المنافع الدنيوية الزائلة.
هذا الوعى الثقافى العميق كان وراء مواقف فاروق حسنى وطرائق تعامله مع العاملين معه، خصوصًا من الأكاديميين الذين كان يعى ضرورة تطوير معارفهم وضرورة إبقاء الصلة بينهم ومصادر المعرفة فى العالم المتقدم. وقد اختبرت ذلك عندما دعتنى جامعة هارڤاد للمرة الأولى لكى أكون أستاذًا زائرًا للنقد العربى بجامعتها عام 1995، ورغم صعوبة الموافقة على غيابى عن المجلس الأعلى للثقافة لما يزيد على ثلاثة أشهر تقريبًا، فقد أدرك ضرورة ذهابى إلى هذه المهمة اللازمة لتطوير معارفى الأكاديمية والثقافية فى آن. وهكذا سمح لى بأن أترك المجلس، على أن يحل محلى أخى الدكتور فوزى فهمى الذى قَبِل هذا العبء برحابة صدر وسماحة نفس لا أنساهما له. ولم يقتصر الأمر على هذه المرة، بل جاءت الدعوة الثانية إلى هارڤارد فى عام 2001 لكى أكون أستاذًا زائرا للأدب العربى الحديث، وقَبِل للمرة الثانية وسمح لى بأن أذهب لأكمل ما بدأته فى المرة الأولى. وأظن أن هاتين الإجازتين قد سمحتا لى بأن أُحصِّل من المعارف الجديدة التى لم أكن أعرفها والاطلاع على مصادر المعرفة الأجد، ما كان له الأثر الإيجابى فى إنشاء المركز القومى للترجمة فى سنة 2007، ووضعه على الطريق السليم لإيقاع عصرنا الذى كان قد تعولم منذ سنوات غير قليلة.
والحق أن هذا الأفق الثقافى الشامل والعميق الذى كان يتميز به فاروق حسنى لا ينفصل عن خيال خلاق كان يجعله يبصر ما لا يبصره الآخرون، ويرى أبعد بكثير مما كان يعجز عنه أقرانه الذين لم يكن لديهم ملكاته الخيالية أو قدراته على تحويل الأحلام غير الملموسة إلى واقع ملموس.
(وللمقال بقية)
لمزيد من مقالات جابر عصفور;


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.