قطرات ماء طهور علقت بأصابع كفها الخشنة خشونة القسوة والعوز، تناثرت القطرات على حزم الجرجير المرصوصة بعناية فوق قفص جريد التقطته من عابر واتخذته متكأ لبضاعتها. لم تكن بحاجة للنداء: «يا وِروِر».. فزبائنها يقصدونها على مدى ساعات النهار ليزينوا موائد الإفطار الرمضانية بالجرجير. بطلة القصة ليست من نسج خيال فنان، ولا إبداع أديب، فهى واحدة من ملايين البشر الذين يسعون فى الأرض من طلعة الشمس، طلبا للرزق الحلال، وسعيا وراء لقمة العيش الشريف، وستظل القاهرة صاحبة الحضن الكبير الذى يضم أبناء المحروسة، وتحتوى بحنو القادمين من الدلتا والصعيد. سألتها على استحياء عن اسمها وسنها؟ قالت: فتحية وبس. وسنِّى كتير «جوى»، ما تعدش، ستين «جول» سبعين، ويمكن أكتر. سكتت وشردت ببصرها، وتلفتت بوجهها يسارا ويمينا، ثم قالت باستعطاف: تكونشى عاوز تمشينى من هنا يا أستاذ.. حرام.. أروح فين يا ولدى؟!. دا انا غلبانة زى ما انت شايف.. سارعت بطمأنتها، وهدَّأت من روعها، وقلت لها: أمشيكى إزاى.. دا أنا بحترم كفاحك، واعتبرك نموذجا للعمل الشريف، كفاية انك بتشتغلى فى السن ده، وبعدما اطمأنت سألتها.. ومن أين أتيت؟ أنا بنت الصعيد الجُوانى، من بلد صغيرة غلب عليها الفقر، واقعة فى دايرة الظلم والنسيان، وقعت من حسابات الكُبرات.. وكفاية كده يا أستاذ ربنا يسهل لك. لكن أنا ما بشوفكيش غير فى شهر رمضان بس؟! أنا آجى من بلدنا فى شهر رمضان كل سنة بس، وأفرش فرشتى واقعد فى حالى زى ما انت شايفنى فى «نقحة» الشمس على ناصية الشارع. ( اتخذت ناصية الشارع مقرا لبيع «الورور» لازدحام المنطقة الشديد). هو انت مالكيش مصدر رزق تانى غير بيع الجرجير؟ اعتمادى أولا وأخيرا على الله سبحانه وتعالى ثم على قروش الجرجير، ومساعدات أهل الخير من كرم وفضل شهر رمضان. وزوجك بيشتغل إيه؟ قبل ما يموت كان أرزقى باليومية، والشغل فى الصعيد شحيح يا ولدى، والرزق على قد الإيد، والرايح أكتر من الجاى.. «جول» يارب. صمتت لفترة خلال إقبال بعض الزبائن، وتأملتها فشعرت بالحزن على ملامحها، والدموع تملأ عينيها. قلت فى نفسى ربما يكون سؤالى أعاد إليها ذكريات حزينة، وقبل ان أعتذر لها استطردت هى من تلقاء نفسها: « جوزى مات بعد فترة بسيطة من جوازنا، وساب لى ابن وحيد مفيش غيره، يدوب اتعلم يفك الخط، نص تعليم على نص عمل على نص أجر، ولا لنا ورث ولا أى شيء نتسند عليه وأنا من عيلة على قد حالها. وابنك بيشتغل إيه؟ ابنى كان يشتغل عند مقاول فى بلد جنبنا كان صاحب جوزى، وشغل ابنى يحتم عليه اللف والدوران ورا الشغل، لأنه ملاحظ ومقاول أنفار. ومتجوز؟ اتجوز بنت من البلد وخلف مها بنات وأولاد. (سادت لحظة صمت جديدة من جانبها وامتنعت عن الكلام) ثم استأنفت الكلام، لكن بين دموع غزيرة. ربَّت على كتفها، لكنها بادرتنى بما لم أتوقعه حيث قالت فى نبرة حزن شديد وبؤس أشد:».. مات ابنى الوحيد فى حادثة، اتقلب به الموتوسيكل اللى كان بيركبه فى الحركة والشغل، وساب وراه ست عيال وأمهم اترملت، وزاد الحمل واشتد الكرب، وما كانش قدامى غير إنى استرزق من فضل الله، وأهل الجود والكرم فى شهر الخير والبركة وبمدد من ربنا علشان أحفادى اليتامى وربنا بيرزق يا أستاذ. وبقية شهور السنة؟!! ربنا دايما مع الغلابة يا ولدى (قالتها بكبرياء وعزة نفس). قبل إنهاء حديثى معها سألتها وأين تقيمين فى القاهرة؟ أقيم مع أختى فى سكن على القد فى منطقة مطَّرفة. مر الوقت سريعا واقترب موعد الإفطار، وجاءها أحد الباحثين عن الثواب بوجبة مغلفة من مائدة الرحمن فى المنطقة، و«الرزق على الله».