يا أخى.. مالك أنت ومال الدولار ارتفع أم هبط؟.. سؤال تلقائى رماه زميل لنا فى وجه زميل لنا آخر ونحن نتسامر. لم يشأ الزميل السائل أن يترك المسئول فى دهشته طويلا فباغته بدفقة سريعة متلاحقة من الأسئلة: بذمتّك عمرك أمسكت دولارا؟ هل رأيته عن قرب أو لمسته؟ هل شممت رائحته؟ لماذا إذن تشغل نفسك بما لم تعرف أو ترى؟.. خليك فى حالك. هبّ الآخر منتفضا وصرخ: آه سمعت عنه فى التليفزيون. ضحكنا جميعا وتندرنا عليه: يا أخانا.. إن من سمع ليس كمن رأى!. وما حكاية هؤلاء الصحاب مع الدولار إلا كحكايتنا جميعا مع كل ما حولنا، حيث بتنا نفتى فى أى شىء وكل شىء، حتى صرنا نتخبط. وليت الفتاوى اقتصرت على أمور الدين والتدين بل تفشى الفتى حتى شمل أسرار الطب والعلاج، والسياسة والاقتصاد، والثقافة والإعلام، وتحكيم كرة القدم، وجودة المسلسلات، وصولا إلى السيد ترامب وإيران والخليج. إنك تنظر هذه الأيام فترى المرء منا مشغولا بسؤال: لماذا الأخضر (الدولار) طالع نازل، ولماذا الأصفر (الذهب) يضطرب فى الصاغة صعودا وهبوطا، مع أن صاحبنا هذا لا دولارات فى عمره جمع، ولا دبلة خطوبة من ذهب اشترى.. فما السبب وراء هذا الهرج والمرج يا ترى؟. تستطيع سيادتك الحديث عن ثلاثة أسباب، أولها فوضى الكلام التى شاعت بيننا كالسيل حتى تكاد تغرقنا. إن الأصل فى المتكلم أن يتحدث فيما يفهمه أو هو متخصص فيه، أما أن يطيش بلسانه هكذا فى أى قضية أو مسألة عمّال على بطّال (كالكف الطائش فى قصعة) فهذا من نقصان العقل، ويؤدى إلى المزيد من نقصان العقل.. لماذا؟ لأن لكل مجال من مجالات الحياة قواعده وأسراره وأصوله، ومن ثم فإن الدخول فيما لا يعنيك سيقودك بالضرورة إلى عدم فهم أى حاجة، وبالتالى فسوف تلطش.. ولهذا كان زميلنا على حق عندما شخط فى زميله: خليك فى الذى أنت فيه!. عدم ضبط الكلام بدوره يرجع إلى قصور فى التفكير، ناتج عن ارتباك فى المفاهيم الأساسية، ونقصان فى الملكة النقدية لدى الفرد، وأيضا عدم وجود بنيان قويم متماسك للمعلومات (يا عينى على الفلسفة!). لكن من أين جاء كل ذلك؟ ياااااه.. تلك قصة طويلة، ليست بدايتها الأسرة ولا نهايتها المدرسة، بل هى قصة مجتمع بالكامل.. غير أن هذا ليس موضوعنا الآن.. ولنسأل: وما الحل لتلك المعضلة؟ الحل مؤقتا أن تفكر قليلا، ولو لثلاث ثوان، قبل أن تُخرج الكلمة من فمك.. يعنى أن تمرر الكلام على عقلك قبل أن تطلقه كالمدفع فى وجوه سامعيك.. صعبة دى؟ حاول وبطّل فتاوى ( خاصة والدنيا صيام)!. وأما السبب الثانى، فهو الإنترنت بكل ما يشتمل عليه من تطبيقات ومواقع وفيديوهات وحواديت ملتوتة وبوستات وتعليقات وانستجرامات (وبلاوى سوداء). صحيح أنه أتاح للكل أن يعبروا عن آرائهم بكامل الحرية والأريحية إلا أنه مع ذلك سمح أيضا لكل من هب ودب بأن يتكلم فيما لا يعلم، حتى وصل بنا الأمر هذه الأيام إلى أن نأخذ الحكمة من أفواه الأطفال. إنك يا أخى كلما فتحت الفيس بوك قفز فى وجهك كل ما لم ينزل به الله تعالى من سلطان.. فإن تساءلت: ومن هو هذا الذى يتكلم؟ ما خبرته وما تعليمه؟ هل هو متخصص؟ من أين أتى بمعلوماته وتخريجاته اللوذعية تلك؟ لا تجد إجابة ( فوضى.. أليس كذلك؟). مشكلتنا مع الفيس بوك، وكل المنافذ الإنترنتية، أنها أتاحت للجميع الكلام بغير ضوابط أو صرامة معلوماتية. وعلى سبيل المثال، فإن الجالسين فى جلسة السمر الدولارية هذه لم يكن منهم ولا واحد دارس للاقتصاد، أو حتى ملم بأقل المعلومات عن حركة النقود والتضخم وسعر الصرف، وكل هذه المسائل الدقيقة.. وإنما كان كل ما فى جعبتهم مجرد تهويمات وتهويشات رأوها أو قرأوها على الموبايل وهات يا رزع لتكون النتيجة فى النهاية مناخا من الاضطراب والتشويش والشائعات والخوف. طيب..وما الحل؟ بسيطة.. لا تعطِ عقلك لأحد أيا كان إلا أن تتأكد من تخصصه وخبرته حتى وإن قال لك إنه دكتور.. فأكم من دكاترة على الواتس والفيس ما هم بدكاترة ولا يحزنون.. فخذ حذرك. وأيضا لا تصدق كل ما ترى أو تقرأ بل ضع بداخل دماغك جرسا واحرص على أن تجعله يدق كلما أمسكت بالموبايل بين كفيك. اهمس لروحك: لن أصدق أى شىء حتى أتأكد .. واعلم أن أغلب ما تراه ما هو إلا اجتهادات وشطحات لأناس لا تسعى إلا إلى طق الحنك، أوالدردشة، أو المنظرة الكذّابة، لتزجية وقت فراغهم.. فلا تجعلهم يستدرجونك. ويبقى السبب الثالث: وهو وهم الحرية. يعنى إيه؟ يعنى أن الكثيرين منا يسعون دائما إلى الإحساس بأنهم أحرار؛ يقولون ما يشاءون، وقت أن يشاءوا، وفى أى مكان. هذا حق مشروع (ألم يخلقنا الله تعالى أحرارا).. لكن بشرط ألا تؤذى الآخرين بما تقول. هذا ما لا نضعه فى حسباننا ونحن نثرثر ونفتى فيما لا نعلم. إنك لا تعرف إلى أين سيأخذك، أو سيأخذ الآخرين، هذا التطجين الضار والكلام الفارغ الخالى من الحقائق والتوثيق.. فكن حذرا لأن حرية القول، كغيرها من الحريات، لها ضوابط.. ويا سيدى إلى أن يمن الله عليك بدولار أو دولارين ساعتها افتِ بمزاجك.. أما الآن فتحدث أرجوك على قدر راتبك!. لمزيد من مقالات سمير الشحات