وصل الخطاب إلى ولى أمر التلميذ فارتعشت أوصال الرجل.. ودق قلبه من الخوف. كان الخطاب استدعاء رسميا من إدارة المدرسة له لمناقشة سلوك ابنه المضطرب بالمدرسة. أخذت الأفكار السيئة عقل الرجل كل مأخذ؛ يا ترى.. ماذا اقترف الولد من جرائم استدعت هذا الاستدعاء؟ هل سرق؟ هل ضرب زميلا له فأدماه؟ هل غشّ؟ هل تطاول باللفظ أو اليد - لا سمح الله- على مدرس له أو مدرّسة؟.. هل. وهل.. ومليون هل! جر الرجل رجليه وتوجه إلى المدرسة. وهناك انعقدت جلسة المحاسبة.. ووضع الميزان. كل معلمى الفصل جاءوا، ومعهم السيدة الوكيلة والاخصائى الاجتماعى. فيه إيه يا جماعة.. خير؟ ماذا فعل الولد؟ صرخوا فى نفس واحد: ابنك يسأل كثيرا فى الفصل. صاح الرجل: بسّ؟ هل تلك هى التهمة التى استدعيتمونى من أجلها؟ قالوا: جرى إيه يا حاج.. وهل تستهين بولد يسأل كثيرا؟ .. وهنالك انبرى مدرس «الإنجليش» شارحا: يا عم الحاج.. إن بالفصل ثلاثين تلميذا وتلميذة.. فلو أن كل واحد منهم سأل سؤالا واحدا لضاعت الحصة.. والحصة 35 دقيقة فقط. وهكذا راح كل مدرس آخر يشكو الشكوى نفسها.. وانتهى الاجتماع بمنح الولد فرصة أخيرة.. وانتزعوا من الأب تعهدا بمنع ابنه من الكلام تماما فى الفصل.. وإلا فسوف يتعرض الولد للرفت. وبينما الحاج فى طريقه للخروج همست الأبلة الوكيلة فى أذنيه: ما تآخذنيش يا حاج.. ابنك ناقص تربية.. فرد عليها الرجل ضاحكا: لا تقلقى يا سيدتى أعدك بأن أكتمه كتمة الفول المدمس.. ومن الآن فصاعدا لن يتكلم أبدا! وطبعا تعرفون ما جرى بعد ذلك؛ انكتم الولد إلى الأبد.. لكنه لجأ إلى الفيس بوك يبثه لواعج نفسه وآلام كتمة الفول المدمس التى تحرق روحه. وتعرفون أن بالفيس آلاف المكتومين مثله، وتزاحمت الكتمات على الكتمات، فأصبح لدينا جيل كامل مكتوم يصرخ مع نفسه على الفيس.. وصرنا بالتالى أمتين متناقضتين تعادى كل منهما الأخرى. والسبب؛ أنك- منذ نعومة أظفارهم- لم تسمح لهم بأن يسألوا فى الفصل. ودارت بينا الدار.. ونحنا ولاد صغار(على رأى الست فيروز).. وكبرنا.. فإذا بالحوار صار الفريضة الغائبة عن المجتمع.. ولو حدث وتحاورنا، تضيق فينا الأنفس، وتتصاعد أبخرة كتمة الفول المدمس إلى العيون والعقول فتطمسها.. ويبدأ التلطيش. بذمتك ودينك ألا تجد صدى لذلك فيما يجرى الآن بين مختلف طبقات الشعب وفئاته؟ ألم تسأل نفسك: لماذا يلجأ البعض إلى مد اليد فى مواقف تافهة لا تستوجب تلك «الغلبة» كلها؟ فأين السر؟ السر- يا سادة- هو أننا لم نتعلم آليات الحوار، وآدابه، وفوائده منذ الصغر. نحن لا يوجد عندنا حوار صحي سليم فى المدارس، ولا فى المساجد والكنائس، ولا على صفحات الصحف، ولا فى الفرق الرياضية بالأندية ومراكز الشباب، ولا فى الأحزاب السياسية.. بل وحتى بين المثقفين والإعلاميين( الذين من المفروض فيهم أن يعلموا الناس كيف يكون الحوار) تجد هرتلات واتهامات وألفاظا يندى لها الجبين. فيه إيه يا بشر؟ يا خلق الله.. إن الحوار لا يقتل، بل التى تقتل هى الكتمة، وحبسة الكلمات فى الزور، ومصادرة الرأى الآخر.. وتلك بالضبط هى التربة الممتازة لنمو الإرهاب الأسود. إن هؤلاء الإرهابيين الآثمين هم أبناء الصمت، وفرض الرأى، وتبنى الفكرة الواحدة التى إن لم تتبنها مثلهم فأنت- والعياذ بالله- كافر! وحتى لا يكون كلامنا فلسفة فى فلسفة.. دعونا نتبنى هذا الاقتراح: لماذا لا تضاف إلى جداول مدارسنا حصتان كل أسبوع نسميهما «الحوار المفتوح»، يقدمهما مدرس متخصص فى تلك المادة.. فلا يدرّس غيرها.. ويتم إعداد هذا الرهط من المعلمين على أيد اخصاء وخبراء فى علم النفس والسياسة والفلسفة ومشكلات المراهقين. وعلى فكرة.. الدنيا كلها( الدنيا المحترمة طبعا وليست دنيا قطع الرءوس!) تتحاور.. وتناقش.. وتعلم عيالها آداب الحوار.. فلماذا نتخلف نحن؟ وللعلم.. فإن كتمة الفول المدمس لن تستمر محبوسة فى قدورها إلى الأبد.. وحتما ستظل تبحث عن متنفس.. فإن لم تجده فسوف تنفجر القدور.. فلماذا كل ذلك ولدينا الحلول.. خاصة وأن الزمان الآن زمان حرية ومعلومات.. وبات كل شىء على المكشوف.. وقبل ذلك وبعده.. فنحن نحب أبناءنا.. ونريدهم أفضل منّا.. فلماذا الانتظار؟ يا سادة.. إن كثيرا من مشكلاتنا سوف يحلها الحوار العاقل المهذب القائم على الاحترام المتبادل والأمانة والصراحة، بعيدا عن التعالى والتدليس وتأكيل الأوانطة وتلبيس العمم.. فهل من مجيب. لمزيد من مقالات سمير الشحات