ونحن نحتفل هذا العام بالذكرى المئوية الأولى لثورة 1919 أحب أن أتحدث عن ثقافة سعد زغلول وعن علاقته عامة بالثقافة والمثقفين. والأسباب التى تدعو لهذا الحديث كثيرة أهمها أن سعدا كان زعيم هذه الثورة المجيدة التى أدت فيها الثقافة دورا أساسيا.. ومن هنا كانت علاقته بالثقافة صورة من علاقته بالثورة تفسر الكثير من مواقفه واختياراته منذ بدأ نشاطه السياسى أو حتى قبل أن يبدأ هذا النشاط، لأن الثقافة كانت طريقه الى السياسة. ---------------------------- بعد أن حفظ القرآن فى مكتب قريته إبيانة وكان آنذاك فى الحادية عشرة من عمره أخذ يتردد على مجالس بعض المشايخ الذين كانوا يلقون دروسهم فى مساجد المدن القريبة من قريته بين رشيد ودسوق.. وعليهم تلقى ثقافته الأولى فى النحو والفقه والتجويد حتى رأت أسرته أن تبعث به إلى الأزهر، فانتقل سنة 1871 إلى القاهرة وهى السنة التى دخل فيها مصر جمال الدين الأفغاني، وفى حلقات الأزهر أخذ سعد زغلول يستكمل ثقافته فى اللغة والدين، بالاضافة إلى دروس الأفغانى التى كان يلقيها فى داره على تلاميذه ومنهم سعد زغلول وفى مقدمتهم محمد عبده الذى قرب إليه سعدا بعد أن رأى استعداده لتلقى العلم وحماسته لتجديد الفكر الديني، واكتشف مواهبه فى الكتابة والخطابة. ومما يذكر عن سعد زغلول فى تلك المرحلة أنه تحول من مذهب مالك إلى مذهب الشافعى لأنه وجد علماء الشافعية، «أكفأ من غيرهم فى ذلك الوقت». وربما أراد أن يقول إنه وجدهم أكثر إدراكا للحاجة إلى التجديد. وقد وضع سعد فى هذه المرحلة من حياته كتابا سماه «فى فقه الشافعية» وكتب على غلافه: ألفه الفقير الى الله تعالى الشيخ سعد زغلول الشافعى من طلاب الأزهر الشريف. كما لخص فى هذه تلك المرحلة كتاب ابن مسكويه «فى تهذيب الأخلاق». هذا عن ثقافته التقليدية، أما ثقافته العصرية فقد تلقاها على نفسه فى تلك السنوات التى اتصلت فيها مصر بأوروبا، وأنشئت فيها المدارس العالية لدراسة الحقوق والطب والهندسة، وظهر أول مجلس نيابى مجلس شورى النواب وتوالى صدور الصحف والمجلات، وترجمت القوانين الفرنسية للغة العربية، وارتفع شعار «مصر للمصريين» ... فى تلك السنوات اختير محمد عبده ليرأس تحرير مجلة «الوقائع المصرية» فاختار بدوره سعد زغلول ليعاونه فى تحريرها. وهى تجربة فرضت على سعد زغلول أن يكتب بانتظام، وأن يقرأ بانتظام، وأن يتعلم الفرنسية، وأن يحصل فى النهاية على ليسانس الحقوق. ولقد كانت قراءات سعد زغلول فى تلك المرحلة مؤثرة فى اختياراته الفكرية والعملية. كان يقرأ عن الثورة الفرنسية، وعن تطور المجتمعات الأوروبية، وعن أصل الاعتقاد الديني، وعن المذاهب السياسية ومنها الفوضوية، وعن الديمقراطية والدستور. ولم يكن فى قراءاته سلبيا، وإنما كان يقرأ وينفعل بما يقرأ ويحدد موقفه مما يقرأ. هكذا كانت الفصول التى كتبها عن الشورى أو الديمقراطية ونشرها فى «الوقائع» تعبيرا عن انضمامه للعرابيين وانخراطه فى النشاط السياسى الذى ظل يتطور ويتصاعد حتى أصبح ثورة عارمة لم تشهد مصر مثلها من قبل ولا من بعد. ---------------------------- كيف رأى المثقفون المصريون سعد زغلول؟ سنبدأ بالسيرة التى كتبها عنه العقاد وسماها «سعد زغلول سيرة وتحية». إنها ليست مجرد تاريخ حياة. لأن العقاد فيها ليس مجرد مؤرخ، ولكنه كما قال عن نفسه صديق ومؤرخ محب لسعد معجب به مؤمن بزعامته يتحدث عن شخصيته فيقف عند جوانبها المختلفة يبسطها ويناقش مايرى أن يناقشه فيها. فضائل سعد، ومواهبه الموروثة والمكتسبة، وملامحه وسماته. ذكاؤه، ومهابته، وصدقه مع نفسه ومع غيره. ولاشك فى أن العقاد فى كتابه يدافع عن سعد، لأن حياة سعد لم تخل من الأعداء والخصوم . لكن العقاد فى دفاعه عن سعد لايدعى ولا يتحايل، وإنما يفسر على النحو الذى يشهد بحسن نوايا سعد ويتفق مع محبته له وإيمانه بزعامته. وربما تجاهل بعض الأسئلة فلم يطرحها لأنه رآها أقل أهمية من أن تناقش فى حضرة هذه الشخصية التى أراد العقاد أن يقدمها بكل جلالها للمصريين. وكما نظر العقاد لسعد زغلول فى سيرته نظر له نجيب محفوظ فى روايته «أمام العرش» التى يقدم فيها زعماء مصر للمحاكمة، أمام عرش أوزوريس وإيزيس وحورس أى أمام الحضارة والتاريخ. نجيب محفوظ هو الآخر محب لسعد مؤمن بزعامته. وفى المحاكمة التى عقدها له واستجوبه فيها عما قدمه لمصر وتطرق فيها لبعض ما أخده خصوم سعد عليه فى هذه المحاكمة يتحدث نجيب محفوظ باسم سعد ويجيب على الأسئلة الموجهة له من قضاته مبتدئا بما يتمتع به سعد من مهابة الطلعة، وقوة القسمات، وجاذبية الملامح،ومنتهيا بشهادة ايزيس وأوزوريس لسعد زغلول باستحقاقه الجلوس بين أجداده الخالدين. وبوسعنا أن ننظر فى التمثالين اللذين نحتهما محمود مختار لسعد، وفى التمثال الثالث الذى صور فيه نهضة مصر أى ثورتها المجيدة فنقرأ فى التماثيل الثلاثة كثيرا من المعانى والأفكار التى عبر عنها العقاد ونجيب محفوظ. العظمة، والمهابة، والقوة، والعزيمة،والعراقة، والزعامة، والإقناع، وتواصل الماضى والحاضر ، وهى ذاتها المعانى التى جسدها المصورون فى الصور التى رسموها لسعد، كما جسدها المعمارى مصطفى فهمى فى الضريح الذى جعله تحفة معمارية. ونحن نعرف الفرق بين الفنون التى تستخدم اللغة كالشعر والرواية والفنون التى تستخدم الألوان والمادة الصلبة كالرسم والنحت والعمارة. فنون اللغة تعبر عن موضوعها بانفعال وجلاء. والفنون التشكيلية ترمز لموضوعها وتشير إليه فتقترب منه أحيانا وتبتعد أحيانا أخري. لكننا مع هذا ننظر لضريح سعد فنرى فيه الكثير مما عبر عنه العقاد فى السيرة ونجيب محفوظ فى الرواية. ضريح سعد الذى بنى على هيئة معبد فرعونى يصور عالم الروح التى تظل ترفرف فى قاعة الدفن كما ترفرف الشمس المجنحة، ومن حولها بقية العناصر التى تستحضر الماضى فى الحاضر وترمز للخلود. وجه الالهة حتحور. وزهرات اللوتس، وحزم البردي. والجعارين. كلها رموز لما نقرأه فى شخصية سعد زغلول من معان ومثل عليا. وللحديث بقية لمزيد من مقالات ◀ بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى