ونحن نتحدث عن العلاقة القائمة بين الثقافة والثورة نحتاج أولا لتعريف الثورة والتمييز بينها وبين ما يشبهها ويستعير اسمها ويتعامل معها كأنها مترادف من مترادفات تختلف فى اللفظ وتتفق فى المعني. هكذا يزول الفرق بين الثورة والفتنة، وبين الثورة والتمرد، وبين الثورة والانقلاب. والمجال لايتسع للوقوف عند كل هذه المسميات، لكننا فى حديثنا عن الثورة والثقافة نحتاج على الأقل لنحدد معنى الثورة ونميز بينها وبين مايمكن أن يختلط بها ويتسمى باسمها. لأن الشروط التى يجب أن تتوافر للثورة كى تقوم والنتائج التى تسفر عنها لاتتوافر للحركات الأخري. الفتنة إثارة وتضليل. والتمرد فعل فردى أو فئوي. والانقلاب نقض للولاء وتغيير لأشخاص الحكام. أما الثورة فحركة شعبية تعمل على تغيير النظام كله والتأسيس لنظام جديد يحقق أهداف الثوار ويمكن الشعب من نيل حقه فى الحرية والعدالة والكرامة، ومن هذه القيم تحتل الثقافة مكانها فى الثورة وتؤدى دورها فيها كما رأينا فى ثورات القرن الثامن عشر فى أوروبا وأمريكا. القرن الثامن عشر هو العصر الذى اصطلح المؤرخون على تسميته بعصر الاستنارة. ففيه ظهر فولتير. وديدرو، وجان جاك روسو، ومونتسكيو، وقبلهم ظهر جون لوك، وديكارت وسواهم ممن تميزوا بثقافتهم العقلانية وفكرهم النقدى ومنهجهم التجريبي. وبهذا الفكر فتحوا الطريق أمام العلم الذى بدأ مسيرته الحديثة فى القرنين السادس عشر والسابع عشر على يد جاليليو وواصلها وأكدها فى القرنين التاليين. وكما كان القرن الثامن عشر هو عصر العقل والاكتشافات العلمية التى تواصلت بعده كان عصر الثورة أيضا. لأن الثورة فى أصلها وعى وثقافة يتمكن بهما الانسان من رؤية الواقع واكتشاف ما فيه ومراقبة تطوره والحكم عليه واتخاذ موقف منه إيجابى يتمثل فى دعمه، أو سلبى يتمثل فى الثورة عليه وإحلال واقع جديد محله. الإنجليز فى القرن السابع عشر ثاروا على ملكهم شارل الأول ودخلوا معه فى حرب أهلية هزم فيها الملك وانتصر البرلمان، والأمريكان ثاروا على الإنجليز الذين كانوا يحتلون بلادهم فى سبعينيات القرن الثامن عشر ودخلوا معهم فى حرب استمرت سنوات، وانتهت بانتصار الأمريكيين وإعلان الولاياتالمتحدة دولة مستقلة. والفرنسيون ثاروا على ملكهم لويس السادس عشر وعلى أنصاره من النبلاء ورجال الكنيسة وانتصروا عليهم وأسقطوا الحكم الملكى وأحلوا الجمهورية محله وأعلنوا الدستور وحقوق الإنسان والمواطن. هل يمكن أن نفصل فى هذه الثورات بين الفعل والفكر أو بين السياسة والثقافة؟ لا. بل نحن لانستطيع إلا أن نرى أن الثورة كانت وعيا وثقافة قبل أن تكون فعلا شارك فيه المثقفون بأفكارهم، وشارك فيه بعضهم بفكره وبفعله. الشاعر الإنجليزى جون ميلتون لم يقتصر دوره فى الثورة الانجليزية على الكتابة، وإنما انخرط فى العمل السياسى فانتقد فى كتاباته الكنيسة الانجليزية ودافع عن الديمقراطية وحرية الرأى وحق الشعب فى اختيار حكامه وفى تغييرهم. وبسبب هذا النشاط السياسى تعرض ميلتون للسجن فى مرحلة لاحقة. والذى حدث مع ميلتون فى الثورة الانجليزية حدث مثله أو قريب منه فى الثورة الفرنسية مع الكاتب المسرحى بومارشيه الذى كان يسخر من النبلاء فى أعماله كما نجد فى مسرحيته «زواج فيجارو» ومع الشاعر أندريه شينييه الذى وقف مع الثورة لكنه عارض روبسبيير فحكم عليه بالإعدام. أما الروائى الروسى تولستوى فقد شارك فى الثورة الروسية قبل أن تقوم، لأنه كان يدافع عن الفلاحين ويحارب الكنيسة ويتعرض بسبب ذلك للطرد والحرمان، فلما رحل تحولت جنازته إلى مظاهرة حاشدة وقف فيها الروس إلى جانبه ضد الكنيسة وضد القيصر. وهكذا كان مع الثورة فى حياته وكان معها فى مماته. والدور الذى أدته الثقافة فى الثورات الانجليزية والأمريكية والفرنسية والروسية أدته فى الثورة المصرية، ثورة 1919 التى كانت الثقافة لها أصلا وفرعا، أو كانت دافعا لها وثمرة من ثمارها. أما أن الثقافة كانت دافعا لثورة 1919 فهذا ما نراه ونلمسه حين ننظر فى شعارات الثورة وأهدافها من ناحية ومن ناحية أخرى فى أعمال المثقفين المصريين الذين ظهروا فى القرن التاسع عشر ونرجع للموضوعات التى شغلت الطهطاوي، ومحمود سامى البارودي، ومحمد عبده، وعبد الله النديم، وقاسم أمين، وأحمد لطفى السيد، وعبد العزيز فهمي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم وسواهم. هؤلاء الرواد الذين بشروا بفكرة الوطن، وفكرة الحرية، وفكرة المواطنة، وفكرة التجديد، وفكرة التقدم، ونادوا بالاستقلال، وطالبوا بالديمقراطية والدستور. هذه الأفكار والمبادئ لم يكن لها مكان فى ثقافتنا الموروثة من العصور الوسطي. الوطن كان ولاية فى الدول الدينية التى كانت تضم كل المسلمين، والانتماء كان للدين والمذهب. والحرية كانت المقابل للعبودية. فالأحرار غير العبيد حتى ولو استعبدهم السلطان أو من يمثله. والقرآن هو الدستور، وهو المرجع فى القانون، والتاريخ، والطب، وغيرها. وقد جاء الفرنسيون الغزاة ليحتلوا مصر ويوقظوا المصريين من نومهم الطويل ويستفزوهم للدفاع عن وطنهم والخروج مما كانوا فيه طوال العصور الماضية والدخول فى العصور الحديثة التى عرفوا فيها هذه المبادئ وهذه القيم التى بشر بها المثقفون المصريون وانخرطوا فى الطريق لتحقيقها، وتحملوا السجن والنفى والاضطهاد والتشريد كما حدث للطهطاوي، والبارودي، ومحمد عبده، وعبد الله النديم. هكذا نرى أن الثقافة كانت أصلا للثورة، أما أنها كانت فرعا من فروعها وثمرة من ثمارها فهذا يظهر فى تلك النهضة التى عرفتها الثقافة المصرية بكل فنونها ومجالاتها فى السنوات التى تلت الثورة. فى الآداب والفنون والعلوم الإنسانية والطبيعية. لم تكن مصادفة، فى تلك السنوات أن تستكمل الجامعة المصرية طاقاتها وتتحول من جامعة أهلية إلى جامعة رسمية، وأن تلمع أسماء شوقي، وحافظ، ولطفى السيد، وعلى عبد الرازق، وطه حسين، والعقاد، والمازني، وتوفيق الحكيم، وعبد الرحمن الرافعي، ومصطفى مشرفة، وسيد درويش، وجورج أبيض، ويوسف وهبي، ومحمود مختار. ولم تكن مصادفة فى تلك السنوات أن تكتشف مصر تاريخها القديم بعد أن اكتشفت أنها أمة مكتملة الشروط، وأن يتمكن بعض الأثريين الأجانب من الوصول إلى مقبرة توت عنخ آمون وغيرها. لقد كانت مصر منسية فى الماضى لأنها كانت منسية فى الحاضر. فلما انتفضت ثائرة من أجل الحرية والاستقلال اكتشفت نفسها واكتشفها الناس من جديد. لكن ما تحقق بالثورة منذ مائة عام لم يبق منه إلا القليل! لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى