صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    فلسطين.. طائرات الاحتلال تنفذ غارات على مخيم البريج وسط قطاع غزة    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    طلاب الشهادة الإعدادية بالإسماعيلية يؤدون امتحان مادتي العلوم والتربية الفنية    الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات كثيفة شرقي مدينة رفح الفلسطينية جنوبي قطاع غزة    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    تفاصيل طقس الأيام المقبلة.. ظاهرة جوية تسيطر على أغلب أنحاء البلاد.. عاجل    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    وزير الصحة: 700 مستشفى قطاع خاص تشارك في منظومة التأمين الصحي الحالي    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: لا حلول عسكرية في غزة.. يجب وقف الحرب والبدء بحل الدولتين    مفاجأة.. شركات النقل الذكي «أوبر وكريم وديدي وإن درايفر» تعمل بدون ترخيص    الصحة: منظومة التأمين الصحي الحالية متعاقدة مع 700 مستشفى قطاع خاص    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    الاحتلال يعتقل الأسيرة المحررة "ياسمين تيسير" من قرية الجلمة شمال جنين    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    على باب الوزير    «حماني من إصابة قوية».. دونجا يوجه رسالة شكر ل لاعب نهضة بركان    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النديم
وكيف نعود به من منفاه!


مصر الشاعرة
أحب قبل أن ننتقل للحديث عن شعراء الإحياء، وفى مقدمتهم محمود سامى البارودى أن نقف وقفة مع علم من أعلام القرن التاسع عشر لا نستطيع أن ننساه أو نتجاهله، رغم أنه لا يصنف شاعرا بالدرجة الأولى، لكنه مع هذا شاعر، بل هو أكثر من شاعر، فقد جمعت موهبته الفذة بين فنون الأدب العربى، كما تلقاها ممن سبقوه من المصريين، وغير المصريين، فضلا عن الفنون الأخرى التى تلقيناها عن الأوروبيين.
عبد الله النديم شاعر وناثر، ينظم القصيدة، والموشح، ويجمع بين الشعر والزجل الذى يعتبره من فنون الشعر، وينظم فى مختلف أشكاله فى الدوبيت، والقوما، والكان كان، وهو فى النثر يكتب المقامات، كما كان يكتبها القدماء، ويكتب المقالة الصحفية، كما كانت تكتب فى أيامه.. ويكتب المحاورات، ويؤلف المسرحيات.. وهو فى هذه الفنون المختلفة يتنقل بيسر وسلاسة بين العامية والفصحى، ثم لا يكتفى بلهجة واحدة من لهجاتهما، فعاميته مرة قاهرية، ومرة ريفية، وفصحاه فى المقامة مسجوعة مثقلة بالمحسنات، وفى المقالة مرسلة منطقية واضحة، فضلا عن قدرته على الارتجال التى أهلته للدخول فى مساجلات كثيرة تفوق فيها وتأهل ليكون خطيبها من خطباء الثورة العرابية، وربما كان خطيبها الأول.
هذه المواهب المتعددة المختلفة لا تفسر فقط بما رزقه عبد الله النديم من ملكات، وبما حصله من معارف، وإنما تفسر قبل كل شىء بالزمن الذى أطلعه، وبالمناخ الذى نشأ فيه والمعارك التى خاضها والتحديات التى جعلته يكتشف فى نفسه هذه المواهب التى نستطيع أن نضيف إليها موهبة أخرى، ربما كانت مفاجأة للكثيرين، وهى موهبة التمثيل التى استخدمها على خشبة المسرح، كما استخدمها فى نشاطه السياسى حين اضطر بعد هزيمة العرابيين للتخفى، قدرات ومواهب لا تجتمع إلا نادرا، لكنها حين تجتمع فى واحد يصبح صورة معبرة عما تملكه أمته، وتلك هى صورة عبد الله النديم التى نستطيع أن نقول إنها صورة مصر.
................
ذهب مع جماعة من أصدقائه إلى طنطا لزيارة السيد البدوى فى مولده الذى يحرص كثير من المصريين على حضوره، وكان فى السادسة والعشرين من عمره، فجلسوا فى أحد المقاهى يتابعون مناظرة أو مساجلة، بين اثنين من «الأدباتية» وهم الشعراء الشعبيون الذين كانوا ينتهزون فرصة اجتماع الناس فى مولد أو احتفال ليعرضوا فنهم وقدرتهم على الارتجال والتنقل بين الموضوعات والفنون المختلفة، وبين الجد والهزل والمفاخرة والممازحة، وقد يدخلون خلال ذلك فى حوار مع الجمهور أو مع من يجد فى نفسه القدرة على مجاراتهم، وبهذه العروض المسلية التى يقدمونها يكسبون رزقهم، وهذا ما حدث مع النديم وأصحابه، فقد اتجه إليهم هؤلاء «الأدباتية» يمدحونهم واحدا بعد الآخر حتى وصلوا إلى النديم فقال أحدهم يخاطبه!
انعم بقرشك يا جندى
وإلا اكسنا امال يا افندى
إلا أنا وحياتك عندى
بقى لى شهرين طول جيعان!
وقد فوجئ «الأدباتى» بالرد الذى لم يتوقعه من النديم:
أما الفلوس أنا ما اديشى
وأنت تقول لى ما امشيشى
يطلع عليّ حشيشى
أقوم أملّص لك لودان!
وقد طالت هذه المساجلة التى بدأت بين الأدباتية بعضهم وبعض، وتحولت لتصبح بينهم جماعة، وبين عبدالله النديم ساعة كاملة انتهت باستسلامهم واعترافهم له بالفوز والغلبة.
وفى مساجلة أخرى بالفصحى فى هذه المرة دارت بين النديم، وبين جماعة من الأدباء فى منزل أحد الوجهاء استفزه بعضهم حتى دفعه لارتجال أبيات يعارض فيها قصيدة المتنبى التى يقول فى مطلعها!
أقل فعالى بلْه أكثره مجدُ
وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جدُِّ
وفيها هذا البيت المشهور السائر!
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بُدُّ!
هذا الشعر الصعب، وهذه الشهرة العريضة لم يدفعا النديم للصمت أو للانسحاب، وإنما دفعاه ليمسك قلمه، ويعارض المتنبى بأبيات يقول فيها!
سيوف الثنا تصدا ومقولى الغمدُ
ومن سار فى نصرى تكفَّله الحمدُ
ثم يقول:
ومن عجب الأيام شهم أخو حجاً
يعارضه غِرٌّ ويفحمه وَغْدُ!
فاذا كانت ارتجالات عبدالله النديم تكشف عن سرعة استجابته للتحدى، وعن حضور بديهته، فهى لا تصل به إلى المستوى الذى يصل إليه فى شعره الذى ينظمه بدافع من نفسه ويراجعه، ويعيد النظر فيه، كما نجد مثلا فى قصيدته التى يقول فيها!
سلوه عن الأرواح فهى ملاعبه
وكُفُّوا إذا سلّ المهند حاجبه
وعودوا إذا نامت أراقم شعره
وولّوا إذا دبت اليكم عقاربه!.
ونحن نجد فى شعر عبدالله النديم، كما نراه فى هذا المثال ميزات لاشك فيها، غنى المعجم، وحضور التراث، وإحكام النظم وحيوية الإيقاع، غير أن مبالغة النديم فى الجرى وراء الاستعارات وإلحاحه فى اقتناصها، حولت العيون النجل إلى سيوف مشرعة وخصلات الشعر الناعمة إلى حيات وعقارب!.
................
لكننا نحتاج لمعرفة شىء عن حياة هذا الرجل الظاهرة، وهى حياة حافلة بالمغامرات قبل أن نستطرد فى الحديث عن أشعاره وأزجاله ومقالاته ومواهبه الأخرى التى قدم فيها أعمالا كثيرة عبر فيها عن مصر التى استيقظت، ونطق فيها بلسان كل المصريين، وسوف أعتمد فى تقديم هذه النبذة عن حياة النديم على ما كتبه تلميذه أحمد سمير مقدمة للكتاب الذى جمع فيه شقيق النديم عبدالفتاح النديم مختارات مما كتبه ونظمه شقيقه، وسماه «سلافة النديم فى منتخبات السيد عبدالله النديم» وقد صدرت الطبعة التى أقتنيها من هذا الكتاب عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1995 دون ذكر للطبعات التى سبقتها، ولهذا لا نستطيع أن نحدد مكان الطبعة الأخيرة منها، وأنا أنتهز هذه الفرصة لأوصى بإعادة طبع هذا الكتاب الذى نستطيع أن نجد فيه الكثير عن الأحلام التى راودت المصريين فى تلك المرحلة الخصبة، وعن الحقائق التى اكتشفوها فيها، والشعارات التى رفعوها وهم يجاهدون للخروج من ظلمات القرون الغابرة ويكافحون الطغاة والغزاة، ويطالبون بالديمقراطية والاستقلال.
تراث النديم مصدر أساسى من مصادر المعرفة التى نحتاج أشد الحاجة إليها لنتأمل تاريخنا ونعرف أنفسنا بعد أن ثرنا خلال السنوات الأخيرة مرتين، مرة ضد حكم الفرد، وأخرى ضد حكم الجماعات الدينية، ووقفنا فى الثورتين إلى جانب الدولة المدنية، وطالبنا بالفصل الصريح بين الدين والدولة، فضلا عن حاجتنا للنظر فى هذا التراث، ونحن نستعد فى هذه الأيام للاحتفال بثورتنا الوطنية الكبرى، ثورة 1919 فى العام المقبل.
نحن لن نفهم تاريخنا، ولن نعرف أنفسنا، ولن نخرج من الماضى المظلم إلى المستقبل المشرق إلا إذا عرفنا أن هذا التاريخ متواصل الحلقات، وأن الواقع الراهن امتداد لما قبله، وأن الدماء التى تجرى فى عروقنا هى الدماء التى جرت فى عروف آبائنا وأجدادنا، وأن ما نطالب به اليوم هو ما كان يطالب به النديم، والبارودى، وأحمد عرابى، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وأحمد لطفى السيد، وسعد زغلول، ومكرم عبيد، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، فإن كان بعضه قد تحقق فقد تنازلنا عنه وعدنا إلى ما كنا فيه!.
................
ولد عبدالله النديم عام 1843 فى الإسكندرية لأسرة بسيطة، وحفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ التاسعة، وتلقى دروسه الأولى فى جامع الشيخ إبراهيم، حيث تعلم فقه الشافعى، والنحو، والصرف، والعروض، والبلاغة، والمنطق، وأخذ وهو فى سن المراهقة يقول الشعر، ويكتب المقامات ليؤكد قدرته على النظم والكتابة فى الأشكال الموروثة، ويحاول فى الوقت ذاته أن يتحرر بقدر ما يستطيع من هذه الأشكال التى يقول عنها كاتب سيرته إنها «بقيت أكثر من عشرة قرون على حالها الأولى يجارى فيها الخلف السلف حتى كانت كأنها ضرب من الألغاز والطلاسم لا يصل إليها إلا من صرف نفيس عمره فى حفظ المقامات المسجوعة والرسائل المنمقة بالتجانيس والألفاظ المترادفة، إلا من عصم ربك، وقليل ماهم».
وقد كانت اللغة هما أساسيا من هموم عبدالله النديم الذى سخر جهوده كشاعر وكاتب لإحياء العربية الفصحى، والدفاع عنها فى مواجهة التقليديين المنحدرين من عصور الانحطاط المتفرنجين المتنكرين لثقافتهم الوطنية، وهو فى هذا يقف إلى جانب محمود سامى البارودى، ومحمد عبده، وعلى مبارك، وحمزة فتح الله، وسواهم من زعماء حركة الإحياء.
والنديم يستهجن فيما يكتب وينظم التعقيد والحشو والكلمات المهجورة، وينصح الشعراء والكتاب بالبعد عن التكلف «حتى يصير البيت أو القصيدة كالماء المنسجم» كما يقول فى مقالة سماها «الانسجام» وهو يسخر من المتفرنجين الذين تحدثهم بالعربية، فيردون عليك بغيرها أو يرقعون لغتهم العربية بالألفاظ الأجنبية، ويعنفهم قائلا «إضاعة اللغة تسليم للذات أيها الناطق بالضاد».
................
ونعود للسيرة فنجد أن النديم الذى يجرب نفسه فى مختلف الفنون يجرب نفسه أيضا فى مختلف المهن والأنشطة العملية، يتعلم كتابة البرقيات، ويعمل بها فى عدة مكاتب، ثم يترك هذه المهنة ويرحل إلى المنصورة ليشتغل فيها بالتجارة، ثم يعود إلى مسقط رأسه فى الإسكندرية لينخرط فى النشاط العام، ويؤسس «جمعية مصر الفتاة» مع جماعة من أصدقائه ورفاقه منهم أديب إسحق الذى يشبه عبدالله النديم حتى كأنهما توأمان.
أديب إسحق الذى ولد عام 1856 فى دمشق كان هو الآخر شاعرا وصحفيا وخطيبا وكاتبا مسرحيا وممثلا ومناضلا سياسيا، اشتغل بالصحافة فى لبنان، ثم انتقل إلى القاهرة ليصدر جريدة «مصر» بتشجيع من أستاذه جمال الدين الأفغانى، ثم انتقل من القاهرة إلى الإسكندرية ليصدر جريدة «التجارة» ويتعرف على النديم، ويؤسس معه هو وسليم النقاش «جمعية مصر الفتاة».
لكن السلطات تعطل «التجارة» بعد أن عطلت «مصر» فيرحل إلى باريس ليصدر فيها جريدة «مصر القاهرة» سيرة لا تكاد تختلف عن سيرة النديم، لا فى البدايات، ولا فى النهايات. ولقد كانت «جمعية مصر الفتاة» التى أسهم النديم فى تأسيسها تنظيما سريا، وكان أعضاؤها يعارضون الخديو إسماعيل الذى لجأ إلى الاستبداد، وتورط فى ديون استغلها الإنجليز والفرنسيون ليتدخلوا فى شئون البلاد، ويفرضوا وجودهم على السلطة مما أدى إلى سلسلة من الأحداث بدأت بخلع إسماعيل وإحلال ابنه توفيق محله، واشتعال الثورة العرابية التى كان النديم واحدا من زعمائها، وقد انتهت هذه الأحداث المتعاقبة بفشل الثورة وهزيمة العرابيين ومحاكمة الثوار، وهروب النديم الذى لم تستطع السلطات أن تصل إليه إلا بعد تسعة أعوام قضاها متخفيا يتنقل فى أنحاء مصر دون أن يكتشف أحد شخصيته الحقيقية، وهى سلسلة من المغامرات المثيرة التى لا نستطيع أن نفسر نجاحه فيها إلا بأنه كان يؤدى فى سنوات اختفائه بعض الأدوار التى سبق له أن أداها على خشبة المسرح!.
حين علم أن السلطات تسعى للقبض عليه لجأ إلى صديق له فى بولاق، ومكث فى بيته أياما استطاع خلالها أن يستحضر ثوبا من الصوف المصرى الأحمر المعروف «بالزعبوط» لبسه وتعمم بعمامة حمراء ووضع على عينيه غطاء، وأمسك بيده عكازا طويلا وخرج بهذه الهيئة، وكانت لحيته قد طالت، فأرسلها على صدره حتى تغيرت صورته تماما، ولم يعد أحد حتى أقرب الناس إليه قادرا على أن يعرف أن هذا الدرويش الريفى هو عبدالله النديم!.
يقول كاتب سيرته إنه كان خلال سنوات اختفائه يغير زيه واسمه، كلما انتقل من مكان إلى مكان، فهو يبخر لحيته بالكبريت إلى أن تبيضّ، فإذا جاء الليل غسلها، وهو يجعل نفسه مغربيا، ثم يرجع مصريا، كأنما نقل عن أبى زيد السروجى حيله، وقد انتحل خلال السنوات التسع التى اختفى فيها تسعة أسماء منها الشيخ يوسف المدنى، والشيخ محمد الفيومى، وسى الحاج على المغربى، كأنه كان فى تلك السنوات يواصل تقديم الشخصيات التى رسمها بقلمه ومثلها على خشبة المسرح.
وكان النديم فى السنوات التى سبقت الثورة العرابية قد أسهم فى إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية التى أنشأت بدورها مدرسة خصصت لتعليم الأيتام وأبناء الفقراء بالمجان، وتولى النديم إدارة المدرسة وسخر لها كل مواهبه، وفى إطار هذا النشاط عرف طريقه إلى فن المسرح، وأخذ يتحدث عن هذا الفن، ويضعه فى مكانه من حركة النهضة.
يقول فى مقالة له عن المسرح «تمثيل الأحوال والوقائع بالتياتر فن بديع يقوم فى التهذيب وتوسيع أفكار الأمم وإخبارهم عن الوقائع التاريخية والتخيلات الأدبية مقام أستاذ وقف أمامه تلامذته يلقنهم العلم بما تألفه نفوسهم، وتميل إليه طباعهم، وكان ذلك شائعا بين العرب والمصريين من زمن بعيد، فما كانت تحيا ليالى أفراحهم إلا بالممثلين، ولكن لتوالى دواعى الجهالة على الأمم الشرقية نظروا إلى أرباب هذا الفن بعين الازدراء، واتخذوهم مضحكين فى أفراحهم وعدوا تشخيصهم الأحوال أمورا مضحكة، وانصرفوا عن العظة بها، والاعتبار بما فيها، فكان ابن رابية فى مصر يمثل أحوال الحكام وأخذهم الناس للسخرة فى الحبال والحديد، وقتل الرجل على عشرين فضة، وشنق آخر بغضب المدير أو المأمور، ونهب المزارع والماشية وإصدار الأحكام بحسب ما يتصور الحاكم...». وهكذا وضع النديم يده بكل بساطة على هذه العلاقة الجوهرية بين المسرح والديمقراطية، وهى العلاقة التى تجسدت فى حضارة اليونان.
ولقد جرب النديم الكتابة للمسرح، فكتب رواية «الوطن» وبعدها رواية «العرب» وشكل فريقا من تلاميذ المدرسة التى تولى إدارتها لتقديم الروايتين على خشبة مسرح «زيزينيا» وهو أكبر مسارح الإسكندرية، ودعا الخديو لحضور العرض الذى كتب نصه وشارك فيه كممثل، وجسد كما أظن شخصية الوطن الذى تنكر له بعض أبنائه.
عزت: بونسوار يا مسيو الوطن!
الوطن: أنا عربى، وأعرف اللغات، وأراك تتكلم بالفرنساوى على غير انتظام!.
.............
والنديم الذى سخر من التفرنج حين يكون تنكرا للأصل وتقليدا مظهريا للأجانب رفض التعصب، وانحاز للحرية والعقل والأخوة الإنسانية، وكان فى تبنيه هذه القيم رائدا شجاعا ومناضلا ملتزما، ولو راجعنا الصحف التى حررها وأصدرها ومنها «المحروسة» و «العصر الجديد» و «التنكيت والتبكيت» و «الطائف» و «الأستاذ» لوجدنا فصولا رائعة فى الدفاع عن الديمقراطية والدستور، والدولة الوطنية، والمواطنة، وحرية التفكير والتعبير.
................
بعد أن قبضت السلطات على النديم نفته إلى يافا، ثم سمحت له بالعودة إلى الوطن، ثم اضطرته للعودة إلى منفى يختاره، فاختار تركيا، وفى تركيا عاش أيامه الأخيرة ورحل بعيدا عن وطنه، وقد آن لنا أن نستعيده بقراءته من جديد.
بالأمس كان غريبا فى ديارهمو
واليوم صار غريب اللحد والكفن!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.