كل عام وكل مصر طيبة، فهذه الأيام هى أيام أعياد وفرح، فالأقباط احتفلوا بعيد القيامة بعد فترة الصوم وأسبوع الآلام، ثم احتفل كل المصريين بشم النسيم. وبعد أيام سيحتفل إخوتنا المسلمون برمضان ثم عيد الفطر. والأعياد عموماً هى حالة فرح ولها دور مهم جداً فى الترابط الاجتماعى والأسري، وأجدادنا الفراعنة هم أول من وضع طقوساً للأعياد فكانوا يعيدون 282 عيداً سنوياً. وكانوا يعيدون على بعض بجملة «حب نفر» أى عيد سعيد التى لا نزال نقولها حتى الآن، وكانوا يصنعون الحلوى ويتبادلونها. وفى عيد إشراق الشمس على حجرة الملك خوفو فى الهرم الأكبر كانوا يخبزون الكعك الذى يمثل قرص الشمس ويزينونه فى الداخل بأشعة الشمس، ويذهبون إلى الأهرام ويوزعونه على حراس الأهرامات والجنود. وكان عيد شم النسيم له طقوس خاصة جدا لأهميته عند القدماء، وقد ورثنا منهم هذا بل ولا نزال محافظين على طريقة الاحتفال به. وقد بدأ الاحتفال عام 2700 ق.م أى منذ خمسة آلاف عام، وإن كانت بعض الدراسات تقول إنه أقدم من هذا. وكان يسمى عيد شموش، أى بعث الحياة، وقد صار فى العصر القبطى «شوم نسيم» أى الحدائق الخضراء أو الحدائق والعشب الأخضر. وقد اعتقدوا أنه فى هذا اليوم بدأت الحياة، إذ يكون أول يوم فى الاعتدال الربيعى حيث يتساوى الليل مع النهار وتكون الشمس فى مدار الحمل، وفى مساء هذا اليوم فى الساعة السادسة مساء يُكون قرص الشمس فوق الهرم هالة من نور كتاج فوقه ثم بعد دقائق تبدأ فى النزول ويشطرها الهرم إلى نصفين. وحين دخلت المسيحية مصر فكان هذا اليوم يأتى فى أحد أيام الصوم الكبير فاستبدل الأقباط هذا اليوم إلى اليوم التالى لعيد القيامة، إذ له نفس الفكرة وهو بعث الحياة وهزيمة الموت، لذلك استحضر الأجداد كل رموز الحياة الجديدة وعدم الموت فى طقوس هذا الاحتفال، فيأكلون السمك المملح، فالسمك هو علامة الحياة من الماء ويوضع فيه الملح فيظل محتفظاً بقوامه دون أن يفسد، لذلك فهو رمز للحياة التى لا تفسد والبعث، لذلك يقول هيرودوت الذى زار مصر فى القرن الخامس إن المصريين كانوا يأكلون السمك المملح فى أغلب احتفالاتهم الدينية اعتقاداً منهم بأنها علامة عدم الموت. وبجانب السمك المملح كان الخس والملانة والبصل من مظاهر الاحتفال، فالخس يرمز لقوة الخصوبة، والبصل بجانب أهميته الغذائية فى قتل الجراثيم كان القدماء يعتقدون أنه يطرد الأرواح الشريرة وفى هذا اليوم يضعونه تحت وسادة النوم. والملانة هى الحمص الأخضر وهو النبات الذى يثمر فى هذا الوقت وله صورة نضارة الحياة، ولكن كان البيض أيضاً من علامات الحياة، إذ أن داخل البيضة التى تبدو بلا حركة ولا حياة كائنا حيا لكى تعبر عن الحياة التى لا تموت. وكانوا يكتبون أمانيهم على البيض ويعلقونها على الأشجار فى الليل حتى حين تشرق الشمس تصعد أمانيهم إلى السماء. وبعد المسيحية لون الأقباط البيض باللون الأحمر علامة على دم السيد المسيح وقيامته ثم أصبح فيما بعد البيض ذا الألوان المختلفة. وكان كل المصريين يخرجون إلى الحقول والحدائق ويمرحون ويكون يوماً مفرحاً، ونحن حتى الآن محافظون على هذه المظاهر المفرحة لهذا العيد. فإننا نحمل فى داخلنا تراث وحضارة كل الأجداد وكل العصور التى عبرت علينا وهذه هى الهوية المصرية التى لابد أن نحافظ عليها. ففى كلامنا خليط من الكلمات الهيروغليفية والديموطيقية والقبطية والعربية، فمثلاً نقول نأكل حتتك بتتك، وهى كلمة مصرية الحتت هو اللحم لذلك الذى يشوى اللحم نطلق عليه كلمة الحاتي، وبتت تعنى العظم والمعنى أنه يأكل اللحم والعظم. ونقول عندى كلكوعة وهذه من الكلمة المصرية القديمة كلكل وهى تعنى ورما، ونقول فلان مزقطط وهى كلمة قبطية تعنى مبتهجا جداً، ونقول «خالص» وهى من الكلمة القبطية هولوس أى مطلقاً، وبالمناسبة نقول مثل خالص بالص مالص وهذا كان تعبيرا لحراس بوابات القاهرة وقت المماليك، فقد كان كل تجار الخضار والفاكهة لابد أن يدفعوا ضريبة عند هذه البوابات، فمن يدفع ينادى الحارس خالص، ولكن هناك من يدفع رشوة بلاص عسل أو جبنة فينادى بالص، وهناك من يهرب منهم فينادى مالص أى عبر دون أن يدفع. ونقول فلان عامل دوشة وهى كلمة قبطية تعنى الصوت المرتفع، أو نقول عندى عشم وهذه كلمة قبطية تعنى يتوقع أكثر من العادي. وبنفس السياق نحن أيضاً تراكمت لدينا كلمات من التراث العربى مثل حين يفيض الكيل بشخص من شيء يصرخ ويقول يا خراشى وهذا هو اسم الشيخ محمد الخراشى نسبة إلى قرية أبو خراشى من البحيرة الذى ولد عام 1601م، وكان إمام الجامع الأزهر، ولكنه كان شيخاً جليلاً وله مكانة كبيرة لدى الحكام والولاة أصحاب المراكز، ولم يكن يرد سائلاً بل كان كل من له مظلمة يذهب إليه ويتوسط فتحل المشكلة. وبعد وفاته صار المصريون يصرخون يا خراشى تحصراً عليه لأنه قد مات الذى كان ينصف المظلومين. وفى كلامنا أيضاً من القصص التى مرت بتاريخنا مثل تروح فين يا صعلوك بين الملوك وهو مثل يقصد به زعلوك الذى كان موظف حسابات لدى أحد المماليك الذى دعى إلى مذبحة القلعة عام 1811م وحظه العاثر أنه ذهب مع وليه وقد لقى مصرعه مع المماليك، ولم يكن يقصد محمد على قتله، ولكنه أراد أن يبيد قواد المماليك فقتل 470 مملوكا، وحين جاءوا ليفحصوا الجثث وجدوا جثته مع المماليك فعوض محمد على ورثته آلاف المواشى والأراضى الزراعية فى ناحية دسوق وأصبح المثل تروح فين يا صعلوك بين الملوك. إننا نحمل هذا الزخم العظيم من الحضارة والتراث الإنسانى لأنه هو هويتنا التى لابد أن نتمسك بها ونعتز بها. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس