أن ما دفعنى لاشراك القارئ فى الاطلاع على أسرار حياتى ليس الاعجاب الزائد بالنفس ولا الرغبة فى المباهاة بعمل عظيم قمت به.. بل مجرد الأمل فى ان يجد بعض القراء فى صندوق اسرارى ما قد يخفف عنهم بعض الأحزان او يزيد من قدرتهم على الاستمتاع ببعض بواعث السرور بل حتى اذا لم يتحقق هذا النفع ولا ذاك قد تفيده القراءة فى شىء واحد على الاقل.. هو ان يعرف القارئ ان لم يكن قد عرف بعد ان الناس اشبه كثيرا بعضهم ببعض مما قد يظن سواء فيما يتعرضون له من بواعث السرور او فيما لابد أن يصادفوه بين الحين والاخر من خيبة الأمل. هكذا قدم المفكر الراحل جلال امين كتابه الممتع الشهير (ماذا علمتنى الحياة ؟) وقد وجدت اهداء بخط يده على نسخة الكتاب التى عندي؛ فتذكرت وجهه الباسم واسلوبه الودود حتى مع الناس الذين يقابلهم لأول مرة.. واستعدت ذلك الانطباع الطيب الذى تركه فى نفسى وانا اتقدم نحوه بوجل بعد ندوة طويلة كان محاضرا فيها. واقول له: انا استمتعت واستفدت جدا بحضور تلك المحاضرة واتمنى ان استطيع ان انقل هذه الافكار لقراء الاهرام.. عبر حوار معك - اجاب: يسعدنى ذلك.. بكل سرور. - سألته: هل اذا اتصلت بك تليفونيا بعد ايام لتحديد موعد مقابلة ستتذكرنى؟ - اجاب متصنعا الجدية: فى الحقيقة انا لا اتذكر الاسماء جيدا للاسف.. قولى لى (أنا البنت الحلوة اللى كنت لابسة احمر فى الندوة) سأتذكرك حتما.. ثم ضحك و ضحكت معه... و قد صار كل شئ بسيطا وانسانيا ومرحا فى طريق ذلك الحوار تأجل نشر حوارنا مدة طويلة؛ لكن انطباعا بالصداقة دام فى نفسى تجاه ذلك المفكر الكبير الذى كان بقدر ما هو شهير و مهم ومؤثر؛ بقدر ما هو بسيط وانسان وقريب للقلب؛ بروح الدعابة وحبه للتواصل مع الشباب و الاستماع الى الناس على اختلافهم.. أظن انه كان يقرأ مصر من صفحات البشر فيها ويعرف احوال البلد من احوال اهلها.. كان رجل اقتصاد مؤمنا بأن الانسان هو كلمة السر؛ و هو بطل القصة كلها! من كتابه (ماذا علمتنى الحياة) نورد هنا تلك الومضات كنجوم فى سماء الليل ترشد عابر الطريق.. من اين والى اين؟ أبى بعد تخرجى بعامين حصلت على بعثة حكومية للدراسة فى انجلترا للحصول على الدكتوراه فى الاقتصاد لم تكن هذه المرة الاولى التى اشاهد فيها انجلترا فقد قضيت شهرا قبل ذلك بسبع سنوات (1951) فى زيارة لأخى عبدالحميد الذى كان يحضر الدكتوراه فى لندن ولأختى فاطمة اذ كان زوجها يعمل وقتئذن هناك كان الفضل فى هذه الزيارة لابى كان يسيطر على ابى الاعتقاد بأهمية تعلم لغة اجنبية فى سن مبكرة؛ اذ لم يستطع ان ينسى معاناته فى تعلم الانجليزية على كبر؛ وتمنى دائما لو كان قد بلغ مستوى اعلى مما بلغه فى اجادتها كان يقول انه قبل تعلم الانجليزية كان كمن له عين واحدة فأصبح له بعد تعلمها عينان! ثورة اصبت بأول خيبة امل فى الثورة عندما سمعنا فى مارس 1954 بنشوب خلاف بين رجال الثورة وعزلهم لمحمد نجيب من رئاسة الجمهورية.. كنا نعشق محمد نجيب عشقا ففضلا عن ارتباط اسمه بالثورة منذ اول ساعة كان للرجل صفات شخصية شديدة الجاذبية اذ بدا عليه الاخلاص التام والنزاهة والتواضع الحقيقى مع ميل واضح للفكاهة دون ان يفقد احترام الناس له.. لازلت اذكر خطبة القاها حسن دوح وكان من قادة الاخوان فى الجامعة وخطيبا موهوبا.. لاحظت مدى قوة تأثير الدين فى المصريين وكيف ان نفس الفكرة التى يمكن ان يقابلها الناس ببرود؛ يمكن ان تثير حماسهم بشدة اذا عبر عنها تعبيرا دينيا. وقد انضممت الى اعتصام الطلبة فى داخل قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة مصممين على عدم ترك اماكننا حتى يعود محمد نجيب وكنت انوى قضاء الليل معهم .. فإذا بوالدتى.. رأيتها على سلم قاعة الاحتفالات بشبشبها وطرحتها السوداء وقد راعها ان تسمع بإنضمامى للطلبة الثائرين فقررت ان تأتى على الفور لإخراجى ! عودة كنت فى طريق عودتى النهائية الى مصر بعد انتهاء بعثتى ومعى زوجتى الانجليزية التى تزوجتها بمجرد حصولى على الدكتوراه فى ابريل 1964 وكانت تأتى الى مصر لاول مرة وكل منا فى غاية الاستبشار ببدء حياة جديدة فى مصر التى كنت افتقدها بشدة.. كان سفرنا بالباخرة وكانت باخرة مصرية اسمها (الجزائر).. قضينا على الباخرة ثلاثة او اربعة ايام كنت خلالها اكاد اطير فرحا وحماسا كلما سمعت اغانى مصرية وكان مطلع اغنية (قلنا هانبنى وادى احنا بنينا السد العالى) من اوليات الكلمات العربية التى تعلمتها زوجتى.. فلما وقفت الباخرة فى ميناء الاسكندرية وظننا ان ما علينا الان الا النزول الى ارض مصر فوجئنا بأن المسألة ليست بهذه البساطة فقد رأينا طابورا من الضباط يصعدون الينا فى الباخرة وعلى وجوههم سمات غاية فى الصرامة والتجهم ويصطف امامهم المسافرون لكى يقدموا للضباط اوراقهم وجوازاتهم.. لم يخطر ببالى قط ان اكون انا واحدا ممن يترقبون وصوله! لم يكن هذا هو بالظبط الاستقبال المطلوب لدى عودتى لوطنى بعد بعثة 6 سنوات حصلت فيها على الدكتوراه لكن هذا الاستقبال المهين لم يكن بأية حال اسوأ مما تعرضت له بعد ذلك. فى لقاء رتبه خالد محى الدين مع شعراوى جمعة بخصوص الاجراءات المتخذة ضدي؛ اثار دهشتى الشديدة واذهلنى ان اسمع ما معناه ان هناك من يقدم تقارير للمباحث العامة حتى عما يقوله استاذ فى الجامعة.. لا فى مؤتمر سياسى بل فى مقرر عن عن ( تاريخ الفكر الاقتصادى ) قال ان هناك ما يدل على انك فى احدى محاضراتك فى كلية الاقتصاد سنة 1964 قلت شيئا يسئ الى النظام. زملاء العمل حقوق عين شمس: زميلى العائد من فرنسا كان رجلا مكتفيا بنفسه يؤمن بقاعدة (عش واترك الاخرين يعيشون) كان ودودا لطيف المعشر ذا شهامة؛ وضع لنفسه هدفا محددا مطلوب الوصول اليه بأقل نفقة ممكنة؛ انه اذن (الاقتصادى) بإمتياز.. لا يضيع وقته فى كلام لا فائدة منه كان يعرف قدر المال جيدا لكنه كان قادرا ايضا على الاستمتاع بالحياة.. بالاكل الطيب والبيت الجميل.. تزوج من فتاة المانية لطيفة هيأت له بيتا مريحا وتركته يسعى لتحقيق اهدافه . اما زميلى العائد حديثا من الولاياتالمتحدة فكان نوع مختلف تماما رجل صغير الحجم ليس لجسمه معالم محددة؛ يعتمد فى حديثه على الكلشيهات من امثال (الحمد لله على السلامة.. وكل سنة وانت طيب.. وربنا يجعل العواقب سليمة ) وهكذا.. واذا عبر عن مشاعره بتلقائية وهو امر نادر الحدوث فستجد الموضوع غالبا يتعلق بكسب مادى يرغب فى تحقيقة او يشكو من ضياعه بدون وجه حق.. وقد حصل زميلى هذا على اعارة الى احدى الدول العربية وعاد منها بمرسيدس فاخرة وكان منظره وهو يقودها الى داخل جامعة عين شمس يلفت النظر بسبب المفارقة بين ضآلة جسمه حتى لا يستطيع النظر من الزجاج الامامى وحجم السيارة وفخامتها. ولكنى كنت الاحظ ايضا انه اذا تصادف ان وصل الى باب الجامعة فى سيارته المرسيدس وانا ورائه فى سيارتى الصغيرة القديمة؛ هب بواب الجامعة واقفا لتحيته وفتح له الباب على مصراعيه ثم يجلس مباشرة غير عابئ بى وانا امر من نفس البوابة ولا يكلف نفسه عناء رفع يده لتحيتى.. وكنت افسر هذا الفارق الواضح فى المعاملة بالفارق الواضح جدا بين السيارتين! نظرية لم يكن هذا الاهتمام الزائد بكسب المال ظاهرة استثنائية.. اذ سرعان ما اكتشفت ان الظاهرة عامة كلما رأيت شخصا يسيطر عليه حب المال قادنى ذلك للبحث فى ظروف نشأته وكلما وجدت شخصا كريما سخيا ومستعد للتضحية بالكسب المادى من اجل فكرة او مبدأ افترضت على الفور انه لم يصادف حرمانا فى صباه والحقيقة لم اجد فى حياتى امثلة كثيرة تدحض نظريتى هذه؛ وصادفت الكثير جدا مما يؤيدها. المجتمع المصرى ككل مجتمع مكتظ بالسكان لا ينتج ما يكفى لتوفير حياة لائقة للجميع فينافس الجميع على الكسب المادى ويحاولون دون جدوى اخفاء هذه المنافسة والتظاهر بعكسها. المرأة كان لدى شعور دفين منذ سن مبكر للغاية بأن من الصعب جدا ان تعجب بى فتاة او امرأة.. لا ادرى من اين جاء هذا الشعور اللعين .. ولكن هاهى وظيفة التدريس تعطينى بعض التعويض وان كان تعويضا بائسا للغاية عما حرمنى منه هذا الشعور تجاه المرأة؛ فكم تلقيت من تعبيرات الاعجاب والتقدير على وجوه تلميذات جميلات فى كل جامعة قمت بالتدريس فيها؛ بإستثناء كلية الشرطة بالطبع حيث كنت لهذا السبب بلا شك اقل اقبالا على التدريس فيها! ان الاشتغال بالتدريس به شبه بالزواج من امرأة دائمة الشباب الاستاذ قد يستمر فى تدريس المقرر لتلاميذ من نفس العمر فإذا به يجدد شبابه بإستمرار من اتصاله المستمر بتلاميذ لا يشيخون ابدا الميزة المهمة التى يحققها التدريس لى هى الحصول على اعجاب الناس وتقديرهم او بالاحرى التصويت كل فترة وجيزة على تجديد الثقة بى. ميتافيزيقا اذا كانت الميتافيزيقا هو كل ما كان غير محسوس؛ فما اكثر الاشياء التى لا تظهر امامنا فى شكل حسى ولكن هناك ما يرجح انها بالغة الاثر فى تصرفاتنا ومعتقداتنا ان الدين رغم انه لا يقوم على التجربة او الملاحظة قد يكون قوة دافعة لاعمال عظيمة المسألة ليست اختيار بين العلم والدين وانما هناك علم فاسد وعلم ينفع الناس كما ان هناك تدينا فاسدا وتدينا ينفع الناس (الفهم معناه الصفح ) انى اؤمن بصحة هذا المثل الانجليزى وخيبة الامل لها معنى آخر غير مجرد الفشل فى تحقيق ما نريد.. وهو وياللغرابة ان نحقق بالضبط ما نريد! ما اكثر ما كتبت عن السعى الحثيث لجمع المال الذى ينتهى بصاحبه الى اكتشاف ان كثرة المال لم تجلب له السرور وما كان يظنه.. نفس الملاحظة تنطبق على اشياء كثيرة غير المال.. لكم تمنيت فى مراحل مختلفة من عمرى ان ارى اسمى منشورا او مقترنا بمقال او كتاب من تأليفي؛ وقد حققت هذا مرة بعد المرة؛ حتى اصبحت رؤية اسمى منشورا تكاد تعادل رؤية اسم شخص آخر لا اعرفه . كتاب جيد زيادة المعلومات كثيرا ما تؤدى الى تقليل الفهم بدلا من زيادته؛ خاصة بطريقة وسائل الاعلام التى تقدم اخبار سريعة غير مترابطة تختلط فيها المعلومات الهامة والضرورية مع غير الهامة وغير الضرورية وعندما يصبح كل شئ محلا للبيع والشراء يزول اى معيار آخر للتمييز بين الاشياء و الاشخاص ولجورج اورويل قول طريف يعرف فيه الكتاب الجيد: بأنه الكتاب الذى يقول لك ما كنت تعرفه من قبل! انه اذن ليس الكتاب الذى يضيف الى معلوماتك ولكنه الكتاب الذى يدعم فهمك لبعض الامور وينظم هذا الفهم ويزيد من ثقتك بصحته.. بهذه المعايير التى سجلها جلال امين بمزيد من التفاصيل المدهشة ؛ يسهل ان نصنف كتاب ( ماذا علمتنى الحياة؟ )؛ بأنه كتاب جيد بل وشيق وفكاهى ايضا؛ مع ما احتواه من مضمون سياسى واقتصادى جاد .. لكن اهم ما جاء فيه؛ حسه الانسانى الصادق؛ وقد تستشعر ذلك معي؛ وانت تقرأ له فى النهاية مثل تلك العبارات: لم افقد قدرتى على الابتهاج بل والابتهاج الشديد احيانا صحيح ان الامثلة على خيبة الامل كثيرة.. ولكن ما اكثر ما نمر به ايضا فى حياتنا من احداث سارة لم يكن يخطر ببالنا وقوعها ولو فى اكثر لحظاتنا تفاؤلا.. على فراش الموت قال كاتب امريكى : لقد كنت اعرف دائما ان كل انسان لابد ان يموت.. ولكنى كنت آمل دائما ان يحدث استثناء فى حالتى.. ويعجبنى رجلا آخر قال: اعلم ان الموت سيأتى حتما وذلك لا يخيفنى.. لا شئ يؤلم فى ذلك.. حينما يحضر الموت لن اكون موجودا !