كان العمل بالصحافة حلمًا يداعب أبناء جيلي، الذين تفتحت مداركهم على تأميمها، إذ كنا نسمع من آبائنا حكايات عن أساطين الصحافة، وكيف كان أميرهم محمد التابعى حين ينزل الفنادق يختار غرفته فى أجنحة الأمراء، وكيف كانت مقالات إحسان عبد القدوس تسقط حكومات وتهز عروشًا، وسمعنا أيضًا عن غزوات على ومصطفى أمين الصحفية، وكيف أسسا مدرسة جديدة فى بلاط صاحبة الجلالة، تعتمد الإثارة ولا تخل بالمصداقية، وحين كبرنا قليلاً انبهرنا بما كتبه أنيس منصور عن رحلاته حول العالم فى 200 يوم، وتخيل كل منا نفسه يلف العالم ويكتب عما يراه. كان العمل بالصحافة أمنية كثيرين من أبناء جيلي، الذين عاشوا زمنًا كانت البطاقة الصحفية تفتح لصاحبها كل الأبواب المغلقة، وكان الصحفى يعامل حيثما حلّ معاملة الكبراء، ويعتبر أقوى من الوزير وأكثر تأثيرًا، فهو ممثل السلطة الرابعة سلطة الشعب، ولم يحل تأميم الصحف دون استمرار هذا التقدير للصحفيين، ماديًا ومعنويًا إذ كانوا الأعلى أجرًا بين الجامعيين فى الوزارات والشركات المختلفة. ومرت الأيام وتبدلت أحوال الصحفيين، حتى لقد صار سعيد الحظ مِنْ خريجى أقسام الصحافة بكليات الإعلام مَنْ يتمكن من التوظف فى جريدة توزع 100 نسخة مقابل 300 جنيه وبدل التكنولوجيا، فقد بات سوق العمل مكتظًا، وأغلقت الصحف القومية أبواب التعيينات بها بعدما غصت بالعاملين، ولم تعد للبطاقة الصحفية هيبتها التى كانت، وتحولت أحوال الصحفيين المادية من عز إلى فقر. المفارقة أن المواطن حين يحتاج إلى مَنْ يساعده على ايصال مشكلته إلى المسئولين، فإن أول ما يخطر على باله اللجوء إلى الصحافة، فالصحفى من وجهة نظر المواطن له علاقات متشعبة بأهل القمة تتيح له ايصال أى مشكلة لهم، ويفعلها الصحفى عن اقتناع بأن دوره فى خدمة الشعب. لكن مَنْ ينقل مشكلات الصحفيين لأولى الأمر؟ سأكسر قاعدة أن الصحفى يتحرج من عرض مشكلته الشخصية أو تحرى حلها لدى المسئولين، وأشكو لأننى لست بصاحب مصلحة فى ذلك لكونى من أرباب المعاشات، إلا أن ظروف زملائى وأبنائى العاملين فى بلاط صاحبة الجلالة تستوجب أن أشير إلى معاناتهم التى لم تدر ببال المسئولين أو عرفوها وتجاهلوها. فلا أحد يصدق الأحوال الصعبة التى يحياها صحفيو هذا الزمن، فقد ولى زمن الصحفى المترف مع رحيل محمد التابعى وعلى ومصطفى أمين، وصار أقصى ما يتمناه الصحفى اليوم أن يكفيه راتبه حتى نهاية الشهر. وإذا كان الرئيس قد صحح أوضاع العاملين بالدولة، فإن هذا التصحيح لم يشمل الصحفيين، لأنهم للأسف ليس لهم كادر وظيفى حتى الآن، والنتيجة أن الحد الأدنى للراتب الأساسى لعامل حديث التعيين بالجهات الحكومية وقدره 2000 جنيه، يماثل أساسى راتب نائب مدير تحرير جريدة قومية أمضى ما لايقل عن 20 سنة فى خدمة جريدته!. إن الصحافة الحرة تحتاج لأساس مادى ومعنوى يدعمها، ويصحح أوضاعها لمزيد من مقالات أسامة الألفى