عندما سألته عن الكمنجة قال: «هى ابنتى»، قالها بتأثر كأنه يتحدث فعلاً عن ضناه. ثم راح يعزف لى فتكدست، فوق عينيه، أربعة خطوط من التجاعيد بعدد أوتار الكمنجة.. كأنها مكتوبة على جبينه. حين يعزف يستدعى «عصام باخ»، كما يلقبونه فى منطقة الحسين، كل ما فقده.. حلم الستر، الذى جاء من المنيا إلى القاهرة، قبل 20عامًا، يسعى وراءه، وحلم التحقق.. أن يلتحق بإحدى الفرق الموسيقية، أو أن يمثل، لأن كثيرين كلموه عن الشبه بينه وبين محمود مرسى وحسن عابدين، غير أن خجله، ووظيفته كفرد أمن بإحدى الجهات، ولقمة العيش التى يطاردها بعد الفراغ من عمله، كل ذلك حال دون وقوفه خلف مطرب أو أمام الكاميرا. بقى «باخ» متجولاً فى الأسواق، يسعى، هو والشهادة الابتدائية التى حصل عليها وسنواته ال 59، على ابنتين، واحدة تزوجت والأخرى ما زالت تدرس بالجامعة، وولد تزوج هو الآخر، لكنه عاطل عن العمل، ما زاد من أعباء «باخ» الذى يضع كل راتبه فى شقة مستأجرة بالمقطم، على أمل أن تتكفل آذان وجيوب من يسمعونه بميدان الحسين بمتطلبات معيشته. هكذا يرهن ليلته، من التاسعة إلى الفجر، لغيره، ولا يحفزه على الاستمرار فى التودد لرواد المقاهى سوى محبته لأغانى أم كلثوم وعبدالوهاب، وذكرى ابنة ماتت بعد إصابتها بالسرطان. إنه يوزع ألمه على فقدها فى كل مرة يضع فيها الكمنجة تحت ذقنه، ثم يبدأ فى العزف أو بالأحرى فى التذكر.. كيف كانت ترفض أن تتناول العلاج من أيدى الأطباء، إلى أن يأتى هو ويداعب خدها بيد وبالأخرى يعطيها الدواء. هنا سالت دموع «باخ» ولم أعرف حين بدأ يحرك أصابعه إن كان يداعب الأوتار أم شعر ابنته الصغيرة التى لفظت أنفاسها دون أن يسبل عينيها، أو يتزود منها بنظرة.