فى أعقاب ثورة 1919 أصدرت بريطانيا تصريح فبراير 1922، وبموجبه أعلنت بريطانيا إلغاء الحماية على مصر واستقلالها القانوني، وأصدر الملك دستور 1923، وفى ظله فاز حزب الوفد فى انتخابات برلمان 1924 وشكل الحكومة، وبدأ تعديل السياسة الاقتصادية بحيث استجابت، وإن جزئياً وتدريجياً، لمتطلبات تعزيز استقلال مصر الاقتصادى وتحفيز التصنيع الرأسمالى الوطني. وأسجل، أولا: أن دستور 1923 قد أعاد اختصاصا أصيلا سحبته سلطات الاحتلال البريطانى من الهيئات النيابية، وهو الرقابة على الموازنة العامة للدولة؛ فنص على وجوب تقديم مشروع الميزانية والحساب الختامى الى البرلمان كى يعتمدها ويوافق عليها، وفى مواجهة عقود الامتياز التى منحت بلا ضابط من قبل، نص الدستور على أن كل التزام موضوعه استغلال مورد من موارد الثورة الطبيعية فى البلاد أو مصلحة من مصالح الجمهور العامة لا يجوز منحه إلا بقانون ولزمن محدود، واشترط الدستور اعتماد البرلمان مقدماً لأى تصرف مجانى فى أملاك الدولة. وتقييدا لتفاقم الدين العام دون قيد وبعيداً عن أى رقابة, نص الدستور على أنه لا يجوز إلا بموافقة البرلمان عقد قرض عام، ولا تعهد قد يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة، فى سنة أو فى سنوات مقبلة. والتزاماً بتنظيم سداد الدين العام الذى مثل ذريعة للتدخل فى شئون البلاد واحتلالها نص الدستور على أن اعتمادات الميزانية المخصصة لسداد أقساط الدين العام، لا يجوز تعديلها بما يمس تعهدات مصر فى هذا الشأن.. الخ. وثانيا: أن برلمان 1924 قد اتخذ عدداً من القرارات، التى استهدفت إعادة السيادة القومية على صياغة السياسة الاقتصادية وخاصة السياسات النقدية والمالية، واتجهت الى دعم الرأسمالية الصناعية والزراعية الوطنية الصاعدة. وهكذا، على سبيل المثال، قرر البرلمان: استهلاك الدين العام الخارجي، وتنظيم العملة بهدف تحرير العملة المصرية من التبعية للعملة البريطانية، وسحب المبلغ المودع فى بنك انجلترا من الاحتياطى العام، واختيار مندوبى الحكومة لدى الشركات الأجنبية من المصريين، وحذف الاعتماد المخصص من الميزانية لنفقات جيش الاحتلال البريطانى ، وتقديم السلف الحكومية للجمعيات النقابية، وبيع أكبر جزء من أراضى الحكومة لصغار المزارعين، وتأجير ما يمكن تأجيره منها بالمزاد، وأن تفضل الحكومة فى مشترياتها منتجات الصناعة والزراعة الأهلية وأن تشترط ذلك فى مقاولات الأشغال العامة، وفتح اعتماد من الاحتياطى لفتح مدارس أولية ومدارس للمعلمين.. الخ. كما أصدر البرلمان قرارا يدعو الى تحرير العملة المصرية من التبعية للعملة البريطانية، وقرارا آخر يدعو الى سحب المبلغ من الاحتياطى العام المودع فى بنك انجلترا. وثالثا: أن الدعوة الى فض تبعية الجنيه المصرى للجنيه الاسترلينى قد تجددت خلال الأزمة الاقتصادية فى مطلع الثلاثينيات، والتى جاءت انعكاسا للكساد العالمي، وتصاعدت الدعوة الى فرض الرقابة على الصرف ووضع قيود على التجارة الخارجية. والأمر أن حق امتياز اصدار البنكنوت الذى منح للبنك الأهلى المصرى قد خلق ما سمى بمشكلة الأرصدة الاسترلينية، التى نجمت عن الإنفاق البريطانى غير المقيد فى مصر خلال الحرب العالمية الثانية والتحويل التلقائى للجنيهات الاسترلينية المستحقة لمصر مقابل هذا الانفاق الى لندن، على حساب احتياجات النهوض الصناعى الوطنى من النقد الأجنبى لتغطية الواردات من الآلات والمعدات. وقد بدأت مصر تحقيق مطلب تحرير العملة المصرية من التبعية للعملة البريطانية بانضمام مصر الى صندوق النقد الدولى فى عام 1945، وخروجها من المنطقة الاسترلينية، وفرض الرقابة الحكومية المصرية على عمليات الصرف الأجنبي، وانهاء التحويل التلقائى للأرصدة الاسترلينية والنقد الأجنبى الى لندن. وبهدف التغلب على استمرار مشكلة الأرصدة الاسترلينية التى فاقمت مشكلات تمويل التجارة الخارجية توالى عقد الاتفاقيات التجارية الثنائية، التى وقع أهمها مع الاتحاد السوفييتي. ورابعا: أن الاتجاهات الاجتماعية الاقتصادية السابقة واللاحقة للحرب العالمية الأولى كانت تشير إلى حتمية تأسيس بنك وطني، لكن قوة الدفع الحاسمة وفرتها ثورة 1919، بتشجيعها طلعت حرب ومؤيديه على تنفيذ فكرتهم. وكانت المساندة الوطنية اللاحقة لبنك مصر وحملة الصحافة الوطنية لدعمه كمشروع وطنى لتحقيق الاستقلال الاقتصادى حاسمة خلال السنة الأولى من عملياته. وقد ساند حزب الوفد مطالب بنك مصر تحت قيادة مؤسسه طلعت حرب. وهكذا، فى إطار موقفه الوطنى المعادى للاستعمار البريطاني، أعلن حزب الوفد موقفه الداعم للصناعة القومية بنداء وجهه إلى الشعب فى عام 1992؛ داعياً المصريين إلى أن يودعوا أموالهم فى بنك مصر، وأن يقبلوا على شراء أسهم بنك مصر حتى تتسنى له المساهمة فى إحياء المشروعات الوطنية وتنشيط الصناعة والتجارة المصرية، وان يفضلوا المصنوعات الوطنية، وأن يتعاملوا مع التاجر المصري، ويقاطعوا التاجر الإنجليزى مقاطعة تامة. وخامسا: أن شراء أسهم وسندات الشركات المساهمة الأجنبية العاملة فى مصر قد تزايد فى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى من جانب أصحاب الأموال من المصريين الباحثين عن التوظيف المربح لأموالهم. وكان التطور الأهم هو إصدار قانون الشركات المساهمة لعام 1927، أول قوانين التمصير؛ الذى قاد الى تزايد نصيب رأس المال الوطنى فى اجمالى رءوس أموال الشركات المساهمة الجديدة وخاصة الصناعية. ثم صدر القانون رقم 138 لسنة 1947، أكثر قوانين التمصير راديكالية، وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية، اشتد الاتجاه الى زيادة نصيب رأس المال الوطنى فى اجمالى رءوس أموال الشركات المساهمة الجديدة خاصة الصناعية. وبفضل تأسيس شركات مجموعة بنك مصر وعملية التمصير أصبح توزيع رءوس أموال الشركات المساهمة العاملة فى مصر أفضل لمصلحة الرأسمالية المصرية، ونال المصريون نصيباً أكبر فى إدارة الشركات الاجنبية المساهمة. وكان تمصير البنوك التجارية العاملة فى مصر جزءا من عملية التمصير، حيث اتجهت البنوك التجارية الأجنبية منذ الثلاثينيات الى تمثيل المصريين فى اداراتها؛ تحت ضغط تنامى الوعى القومى وتعديل تشريع الشركات المساهمة، وإن بقى نفوذ المصريين ضئيلاً فى توجيه سياساتها. لمزيد من مقالات د. طه عبدالعليم